عبد القادر حمّود: البازار

عبد القادر حمّود: البازار

زي بوست:


*
آخر ما أحكيه اليومَ (حبيبة قلبي) عن البازارْ
ستقولين (وهذا ظني): ما شغلكَ فيه، فليس البازار قضيةَ رأيٍ، أو ميدانَ نزالٍ تُقْحِمُ خيلكِ ما فيه من معمعةٍ ووثوبٍ وفَخَارْ
لا بأس (حبيبة قلبي) أعلمُ أن الأمر سيحتاج لشرحٍ، ومناقشةٍ، وحوارْ
فأنا الآخرُ أسألُ نفسي…
وأُعيدُ التفكيرَ ليلاً ونهارْ
فدخولي هذا البازارَ (لِعِلْمِكِ) تجربةً كانت أقسى من (صِفِّينَ) ومن يوم الخامس من شهر حزيران..
أجلْ…
هي كانتْ أقسى من كل هزائم هذا التاريخِ المزعومِ…
وأبشع من داحس والغبراء وما كان وما صارْ
فأنا المولودُ مساءَ النكبةِ
والساكنُ في حيِّ النكسةِ
والمدمن (مورفين) التطبيل لقطعانِ الخيبةِ والعارْ
لا بأسَ، تعودت النكباتِ
تعودتُ النكساتِ
تعودتُ الخيباتِ
ولم أشعرْ قطُّ بتأنيب ضميرٍ أو ما شابه من أفكارْ
لكنَّ الأمر تجاوز هذا اليوم كل حدود المُمْكِنِ، صار كخنزير بجناحين…
(وما بالُكِ بالخنزير إذا طارْ)…
لا بأسَ (حبيبة قلبي)، لا بأسَ، فقد رحتُ إلى البازار، وتمشَّيْتُ ككلِّ المخلوقاتِ..
شمالاً وجنوباً
وتمشِّيْتُ يميناً ويسارْ
كان الرزُّ هناكَ
وكان السُّكَّرُ والزيتُ
ولحمُ الضأنِ
وكان البصلُ الأخضرِ..
والجافِّ…
وربُّ البندورة، والبرغلُ..
واصطفَّتْ فوق الأكياس عباراتٌ مختلفةٌ، عن تاريخِ الصنعِ، وآخرِ مدَّةِ بيعٍ، وكلام نذكرهُ باستمرارْ
إلا (السِّعْرَ) فمتروكٌ لجنابِ التاجرِ حيث يشاءُ ويختارْ
لكنْ لا بأسَ (عزيزي الصامدَ حتى العظمِ) بإمكانكَ أن تدفعَ حيث تشاءُ، لك (الحريَّةُ) كلُّ الحريَّةِ أن تدفع بالليرة أو بالدولارْ…
وبإمكانكَ أن ترجع للبيتِ، وتنشدَ للأولاد وللزوجة:
(عمي شيخٌ للتجارْ
يحملُ في يده المنشارْ)…
لا بأس (حبيبة قلبي) لن أزعلَ من هذي الأشياءِ فليس هناك جديدْ
لا شيءَ، فهذا الأمر قديم، وعريق، بالتأكيدْ
وأنا أعرفه منذ نهايةِ حكم الأجدادِ لإشبيليَّةَ أو غرتاطةَ أو مدريدْ..
بل يُمكنني وبدون مبالغة أن أهمسَ في سمعكِ إني أعرفه قبل كتابةِ (هوميروس) لملحمته (طروادةْ)..
فالأمر تراثٌ نحن نفاخر مَنْ في الأرضِ به، غلماناً كانوا أم سادةْ
هي عاداتٌ وتقاليدٌ راسخةٌ…
تأكلنا/ نأكلها، تشربنا/ نشربها، تدخلنا/ ندخلها، تخـ…/ نخـ… كالعادةْ
لا بأسَ…
ولكنْ أخطرُ ما شاهدتُ اليومَ (حبيبة قلبي) في هذا البازارْ
أن الكلبَ
وأنََ الجحشَ
وأنَّ البغلَ
وأنَّ النغلَ، وكلَّ بني الذيلِ، وما دوَّنتُ بأعلى الصفحةِ من أصنافِ حبوبٍ وخضارْ
كانت تشرى وتباع ، وكان يهشُ لها التجّارْ
فتدوسُ الليرةُ فوق الليرةِ، والدولارُ على الدولارِ، وثمة من يترحَّمُ من أعماقِ الأعماقِ على الدرهمِ والدينارْ
لكِنْ…
لم أرَ في تلك الرحلة إلا الإنسانَ ذليلاً محزوناً
يمضغُ ما في الكتبِ الصفراءِ من الخبارْ
وبلا حَوْلٍ ينتظرُ النخّاس ليلقي بين يديهِ (باسمِ الإنسانية)حفنة رزِّ
أو (ربطةَ) خبزٍ
وينادي في آخر جولات الصفقةِ: (من يدفعُ أكثر)..
(مَنْ يكسرُ سقفَ الأسعارْ)
وينادي
وينادي
ويباعُ الإنسانُ بلا ثمنٍ يُذْكَرْ
ويُقالُ كثيراً عن هذا الأمرِ، ويمتدُّ اللغوُ ويكبرْ
لكنْ آخرُ ما تذكرُهُ (النُّسْوانُ)..
وآخرُ ما في قنواتِ (اليوتيوب)، وما في صفحات (الفيسِ)..
وما يتسرَّبُ من هذا أو من ذاك، وما تفشيه (فروع الأمن) من الأسرارْ
أنَّ البازارَ القادمَ، سوفَ يُحدِّدُ سقفاً أعلى أو أدنى (لا أعرف) للأسعارْ
قال أمير الأمراء:
ستشهد بلدتُنا قفزةَ أمنٍ واستقرارْ
قال مُطَبَِلُ حارتنا:
تحيا (الثورة)
تحيا (الثورة)، يحيا (الثوّارْ)…
وتزاحمتِ الكلماتُ…
فألفُ محلِّلِ أقوالٍ يتشدَّقُ حيناً بالمأثورِ، وحيناً آخرَ بالخطب الجوفاء، وبالأشعارْ…
والنخَّاسُ ينادي باستمرارْ
من يدفعُ نصفَ السعرِ..
أقلَّ.. أقلَّ
هنا في المخزن كدَّستُ شعوباً وقبائلَ
أطفالاً، وصبايا..
يوجد عندي ما تطلبُ، يوجد ما تختارْ
مَنْ يَدْفَعُ ربعَ السِّعْرِ
أقلَّ.. أقلَّ
على (أونةْ)
مَنْ…
عـ…،على (دوَّةْ)
قال النخّاسُ، وزمجرَ برميلُ الموتْ
سقطتْ أحلامٌ، وانهارتْ فوقَ رؤوس السكّانِ بيوتْ
واختلطت رائحة الدَّمِ بـ(النابالمِ) وغازِ (السَّارين) وأشكالِ (الفوسفور) ومشتقاتِ (الكبريتْ)…
لم يبق هنا في البازارْ
إلا جثثاً ملقاةً، وبقايا ألمٍ وشقاءٍ ودمارْ
لم يبق هنا في البازارْ
إلا أسرابَ ذبابٍ..
وعبااااااااااااااااااارٍ
وغباااارٍ
وغبارٍ
وغبارْ……….
*

*ريف إدلب: الأربعاء 5 آب 2020م

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s