
عبد الغني حمادة: عيد بلا سلاحف
خرج من محل الورود بابتسامة عريضة تكسو ملامح وجهه المعفَّر بالغبار، احتضن الوردة الحمراء، شمها بعمق، ثم خبأها في صدره، تحت معطفه المتسخ من أثر عمله في ورشة بناء كما يبدو عليه.
امتطى دراجته، وغاب شيئا فشيئا، بعيدا في الشارع الطويل.
- ( ياللغراية!!، كيف يفكر هؤﻻء الناس )؟؟.
رجل تجاوز الخمسين، اشترى هدية لتوأم روحه، وأنا أخجل أن أقول لها كلمة حب، أو إعجاب، أو تلميح كحد أدنى!!.
رغم عدم قناعته بهكذا أعياد، أو تربيته منذ الصغر في مجتمع يرفض الاحتفال بالمناسبات الهجينة، أو المستوردة من الغرب، أو الأعياد المحرمة كما حفظها من رجال الدين، إﻻ أنه قرر أن يفاجئ زوجته اليوم بهدية تغير مجرى حياتهما، وتعيد الخصب للأرض المجدبة بعد سنين، وليتكلم الناس عنه ما يشاؤون… - ( ومن سيتكلم عنك يا مجنون،؟!!، أنت في بلد غريب، لن يعرف أحد بفعلتك إﻻ جيرانك اﻷتراك الذين يحتفل أغلبهم بعيد الحب )؟؟… هيا اشتر دبدوبا أحمر، أو أي هدية أخرى..
- دبدوب!!, وأحمر أيضا!!.
لابأس، ما هذا، يا إلهي!!., وكأن محال الهدايا كلها اصطبغت بالأرجوان!!.
لم ينتبه قبل هذه السنة لهذا العيد. فأخبار الحرب والويلات في بلده أنسته كل اﻷعياد، حتى أن عيدي الفطر واﻷضحى كانا يمران كباقي الأيام في غربة طحنت أحلامه، وأحالت روحه إلى ركام، ورمدت ذكرياته الجميلة عن وطنه المهدد بالزوال من قبل طغاة مجرمين يدمرون كل أثر للحياة، ويقتلون كل ما يمت للحب والجمال بصلة. فاستوطنت الكراهية والأحقاد، وعاد الثأر بكل أشكاله وألوانه. - ﻻتستغرب يا صديقي، هنا كل الناس تحتفل بعيد العشاق، حتى جماعتنا، انظر إلى محل الورد المقابل..
- مابه؟!.
- ثلاثة أرباع زبائنه سوريون، لقد اشتروا كل الورود من عنده, الرزق على الله..
- سوريون يحتفلون بعيد العشاق هنا، في بلد اللجوء؟!.
أكثر ما أثار دهشته اليوم، أن محلّا يبيع سلاحف صغيرة، مصبوغة بالأحمر، بمئة دوﻻر للواحدة!!.
الشارع الرئيسي مزدحم على غير عادته، حتى الأطفال يحملون بالونات حمراء على شكل قلب حب، سيارات مزينة بالدباديب والورود الحمراء.
محال العطورات تغص وتبلع بالزبائن، وجوه الشباب والصبايا تفيض بالابتسامات، والضحك عنوان اليوم. أما العيون فتقدح بالبريق والتألق.
الخجل منعه من شراء دبدوب أحمر، أو حتى علبة عطر، أو حتى سلحفاة صغيرة!!.
عاد إليه وجهها المرتبك، والمصبوغ بحمرة الخجل: - أغمضي عينيك…
اقتربت شفتاه المرتجفتان من الكرز، وخطف ما يشبه القبلة، ثم هرب، واختبأ خلف صخرة على شاطئ البحر، بكت حينذاك، فرحا أم خجلا، لم يعد يذكر..
غابت ملامح الوجه الذي لم يرَه بعد أن غادر تلك المدينة البحرية الهادئة منذ دهر أو أكثر.
لم يحسب ردة فعل زوجته على هدية لم يخترها بعد.
هل ستتفاجأ، أتطير فرحا، أم ستهزأ به؟!، ما موقف أوﻻده، بناته، وأحفاده؟!.
ﻻبد أنهم سيفرحون، وسيغنون لوالديهما وجدهم، وقد يرقصون!!.
رنين الموبايل أوقف استرساله، وهو يتابع ذلك الرجل البسيط، الذي خبأ وردته في صدره، وانطلق على دراجته، والدنيا ﻻ تكاد تتسع فرحته. - احضر بسرعة إلى البيت.
نسي الورود وكل شيء، كان بلاط المدخل مصبوغا بقطرات الدم، والرعاف ﻻ يكاد ينقطع من أنف حفيدته الصغيرة، فيما صوت سيارة الإسعاف يلعلع أمام مدخل البناية!!..
Kilis .. Turkey