عبد القادر حمود: نقطة سوداء

نقطة سوداء

***

قصة: عبد القادر حمّود

***

ما يشبه التمهيد:

لا أعرف من أين سأبدأ، فثمة ضجيج مرتفع في مكان من العالم، ولا أظنّني سأكون بحالة نفسية جيدة تؤهلني للكتابة، ومع ذلك فأنا أبدأ محاولتي معتمداً على ضجيج آخر يسكن داخلي، وأرجو أن يعلو شيئاً فشيئاً فيطغى بعض الشيء على الضجيج الآخر فاتحاً لي نافذة مقبولة للكتابة…

لحظة من فضلكم، فأنا مضطر أن أغمض عينيَّ لأمارس فعلي بطريقة تبعدني عن كل ما حولي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فثمة تفاصيل دقيقة في قصتي لا أستطيع أن أتبينها إلا في حالة من الإغماض والخروج من براثن المحسوسات ما أمكنني ذلك..

بداية القصة:

كان (عبد الله) يعاني من بعض الحمى عندما بدأت حكايته بشكل فعلي مع (سميّة)، ولعل تلك الحمى لم تفارقه بعد، فقد كانت الفتاة تملك جسداً مميزاً طالما لفت انتباهه رغم حداثة سنه، ولكنه لم يكن حتى ذلك الوقت يعرف المعنى الدقيق لذلك الشعور الذي يعتريه كلما راقب حركاتها في غدوها ورواحها، ولا يعرف أيضاً إن كانت تشعر بما يهجس به أو أنها خارج تلك الدائرة…

لقد بات تلك الليلة في منزل جدته (حدث ذلك بسبب الحمى التي لازمته منذ ظهيرة ذلك اليوم)، وكانت سمية ضيفة هناك برفقة والدتها التي تجمعها بجدته صلة قربى لا أحد يعرف ما هي على وجه الدقة والتحديد حتى الآن..  

ولأن أسرة الفتاة تسكن المدينة منذ زمن بعيد، فبالطبع ستبيت الضيفتان تلك الليلة في بيت الجدة التي طالما احتفت بزيارتهما أشد الحفاوة، ولا بأس أن نذكر أن بيت الجدة هذا يتكون من غرفة وحيدة واسعة، أبرز ما فيها سقفها الخشبي الذي أظل عدة أجيال من العائلة…

كان عبد الله في حوالي الثانية عشرة من عمره آنذاك، وكانت في الثالثة والعشرين، ولأنه بنظر الجميع هناك مجرّد طفل محموم يحتاج لعناية وانتباه فلم يكن أحد يفكر بأبعد من توفير بعض الهدوء ليتمكن من النوم وبخاصة بعد أن مررت الجدة يدها على جبينه مرات عديدة وهمست لضيفتيها: (الحمد لله، أظن أن حرارته انخفضت، وأنه استسلم للنوم)..

وبعيد وقت، ربما ثلاث ساعات أو أكثر  حاول أن يفتح عينيه لسبب ما، إلا أن المشهد أمامه لم يكن بالحسبان، فعاد وأغمض عينيه خشية أن تشعر به الفتاة التي شرعت بتغيير ملابسها على مسافة لا تتجاوز ثلاثة أمتار من مكان رقوده، ولكنه لم يقاوم ذلك الهرب فعاد وشقّق عينيه بفتور بالغ كأنه يخشى أن يكون لجفنيه حفيف يفسد المشهد..

لقد تعرَّت الفتاة آخر الأمر تماماً، ولا صوت للعجوزين اللتين راحتا في نوم عميق على أغلب الظّنّ، وتجرأ عبد الله بعض الشيء فشقّق عينيه أكثر قليلاً، لقد شاهد تفاصيل عديدة من جسد الفتاة التي كانت توليه منظراً شبه جانبيٍّ لجسد يتصارع في تفاصيله النور الباهت مع الظلال الحالمة ليشكلا بعداً آخر للفتنة التي كادت تتغلب على الحمى التي مازال يشعر بها كَزائرة فضولية تحاول تعكير صفو المشهد البديع..

وسعلت الجدة، وأغمض الطفل عينيه ربما بطريقة لاشعورية، وازدادت وطأة الحمى، ولم يعد متأكداً هل هي تلك الحمى التي لازمته منذ الظهيرة أم ثمة حمى أخرى…

لقد انتهى سعال الجدَّة وتلاشى ما تركه من صدى في مخيلة عبد الله، إنما ظلت عيناه مغمضتين برغم اشتعال الهواجس، وحاصره شوق لفتحهما إلا أنهما ظلتا مغمضتين، وحين فتحهما في وقت لاحق كانت يدٌ مرتجفةٌ تحاول أن تمسح جبينه المتعرق، وثمة فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها تقول (أظنك بخير، لقد ذهبت الحمى أليس كذلك؟)، وقال بحروف شبه متقطعة: (نعم، أظنّ ذلك)….

مشهد:

أغلق عبد الله باب المشغل على نفسه ساعات طوال، وكان إزميله يمرّ بحنان وحرفية على الصخرة التي بدأت تتحول شيئاً فشيئاً إلى جسد أنثى، كان يتأمل منحوتته لحظة بعد لحظة ويحرص أن ينظر إليها وهو نصف مغمض العينين ومن مسافة بقدر المسافة التي كانت تفصله عن سمية حين وقفت عارية في تلك الليلة التي يقف بينها وبين لحظته تلك زمن ظنَّه بعيداً…

لقد أنجز أجزاء مهمة من منحوتته التي ما برح يأوي إليها كلما داعبه الحنين، وحين تكلُّ يداه يعود إلى تأملها بذات الطريقة التي يحرص عليها، وحين يجد في نفسه رضاً وقناعة يتنفس عميقاً، ثم يفتح عينيه ويرمق المنحوتة أو لنقل مشروع المنحوتة بنظرة وداع فيها أمل وسكينه، ولا يغادر مشغله إلا بعد أن يغطي مشروعه بغطاء أبيض يشبه طرحة عروس…

علا لهاثه كثيراً، وتصبَّب عرقه بشكلٍ لافتٍ عندما لامس إزميله البارع منطقة الشفتين، وازداد اللهاث أكثر وتصبَّب العرق بشكل أغزر وهو يضع اللمسات الأخيرة على نهدي منحوتته التي بدأت تفرض عليه أشياء لم تكن بالحسبان، لقد أصبحت العلاقة بينهما أكبر من نحات ومنحوتة، ولقد بات تلك الليلة تحت وطأة حمى كالتي لازمته في ذاك المساء ولعلها كانت أشدُّ إلا أنه لم يهتمَّ للأمر، ولم تمتدّ يد الجدة إلى جبينه لتحسس حرارته أو لتمسح قطرات العرق التي بدأت تسيل بفتور بالغ فقد ماتت الجدة قبل سنوات عديدة..

مضى زمن طويل ومازال إزميله يمرّ على ذلك الجسد الذي بدأ يتكون شيئاً فشيئاً، ومازال النحات  يأوي إلى تلك الغرفة المطلة على شرفة واسعة مفتوحة على الأفق الرحب الوسيع، وتعلو منحدراً صخرياً سحيقاً مازالت أمواج البحر تلطم قدميه منذ زمن سحيق، لقد أنجز النصف العلوي من منحوتته وأصبح إزميله أكثر حذراً ودقة وهو ينجز منطقة البطن حيث ترتسم السرّة أشبه بلغزٍ لا يتمنى النحات التفكير بكنهه كثيراً فقد بلغ الجهد به أيّ مبلغ واشتدت وطأة الحمى حتى كاد لهاثه يعبر جدران الغرفة الباردة ليصل إلى صالة المشغل حيث تنتظر منحوتات مختلفة الأشكال والأحجام إنما لم تكد تأخذ من النحات إلا قدراً ضئيلاً مما أخذته وتأخذه منحوتته تلك…  

فصل آخر من القصة:

(لقد تزوجتُ، مضى على ذلك أكثر من خمس عشرة سنة) قالت سمية كلماتها تلك، وقال عبد الله: (نعم، لقد ذكر لي أحد ما ذلك)، وقالت بعد صمت قصير: (لقد انقطعت زياراتي للقرية بعد أن ماتت جدتك، ولقد ماتت أمي هي الأخرى بعد سنوات قليلة)، وقال بصوت راعش: (أذكر أنك جئت إلى القرية يوم وفاة جدتي وكان برفقك شاب، قيل لي إنه خطيبك، لم أستطع تحديد شعوري نحوك أو نحوه في تلك اللحظة، ولكن أمراً حدث في داخلي، لقد انسحبت آنئذٍ من المشهد ولم يشعر بي أحد على ما أعتقد)، وهمست بنبرة توحي بأنها على معرفة تامة بما يهجس به الرجل الذي طالما كانت صفحة هواجسه مغلقة على الآخرين بإحكام شديد: (مضى على ذلك اليوم زمن طويل، وأذكر أني افتقدت وجودك وسألت أحداً ما عنك)، قالت ذلك وقد احتقنت وجنتاها برغم ما اعتراهما من ذبول، وتلكأت الكلمات قليلاً فوق شفتيها، وزاد في الأمر سوءاً ذلك الصمت الواجم الذي سيطر على الرجل، فسحبت نظراتها من مجال عينيه بسرعة وحركت شفتيها قائلة: (بالفعل لقد أفتقدك وسألت عنك، ربما لأني أعرفك أكثر من الآخرين، أو…)،وابتسم الرجل محاولاً إنقاذ المرأة التي بدت متعثرة الكلمات والتعابير، ولسبب ما وجد في نفسه راحة وقبولاً للموقف دون أن يسمح لذلك الشعور بتجاوز مساحته المفترضة، لقد قال: (بالفعل لقد مضى زمن على ذلك، وحدثت أشياء كثيرة، فانقطعت معظم أخبارك عني، أعرف أنك أنجبت طفلين ربما أصبحا شابين الآن..)، وفتَّشت بعينيها أرجاء الصالة التي توزعت في أنحاء عديدة منها بعض المنحوتات التي أنجزها عبد الله في أوقات سابقة، لقد أشعره ذلك أنها تفتش عن شيء ما، فارتجف شيء في داخله، وقبل أن يسيطر على نفسه تماماً قالت بصوتها الهامس: (بلى، لقد أنجبت طفلين، ولكن بعد ذلك انفصلت عن والدهما، بالفعل لقد أصبحا شابين الآن..)، والتفت إليها بهدوء رغم علامات الدهشة الواضحة التي ارتسمت على وجهه وقال: (لم يذكر لي أحد شيئاً عن هذا!)، وقالت: (كنا خارج البلد، وبرغم انفصالي عنه لم أعد إلى البلد إلا منذ سنوات قليلة، فقد كان لدي عمل هناك)، نظر عبد الله في عينيها اللتين كفتا عن التجوال في أرجاء صالة المشغل، وحين مارست هربها من خلال العودة إلى تجوال آخر أرسل عينيه هو الآخر في رحلة تجوال لكن ليس في أرجاء الصالة التي تتناثر فيها أجزاء من رحيله مجسدة على شكل منحوتات من الصخر الأليف، ودون أن تنظر إليه قالت: (لقد تزوجت ثانية منذ سنة تقريباً، وأنا حامل الآن في شهوري الأولى) ووجم قليلاً ثم قال: (خبر آخر لا أعرفه ولكن لم يفاجئني على كل حال، فقد كدت أسألك عن شيء من هذا، لا أعرف ماذا كان بودي أن أقول بشكل دقيق فالمسافات والأزمنة والتقلبات تجعل المرء في رحلة اضطراب وهذا يخلط الأوراق دائماً)، وقالت: (لا بأس، لك عذرك ولي أيضاً، فآخر مرة رأيتك فيها كنت شاباً صغيراً، ولعلي لا أتحرج إذا قلت كنت طفلاً، ولقد سعدت عندما علمت أنك تخرجت في كلية الفنون الجميلة وأصبحت نحاتاً لك شهرة طيبة، هل تصدق أني عرفت ذلك من إحدى المجلات التي كنت أتصفحها، ولقد حاولت التواصل معك بأية طريقة إلا أني لم أوفق حتى حصلت على عنوانك من إحدى قريبات زوجي فهي تعمل في مجال قريب من مجال عملك، في الصحافة تحديداً وأظن أنها ناقدة فنية)، ابتسم الرجل ببعض الوقار قبل أن تتجه عينيه إلى باب الغرفة التي تقبع فيها منحوتته الأثيرة بانتظار إزميله الذي مازال يدأب في إظهار ملامحها يوماً بعد يوم، وحين عادت نظراته إلى عينيها قالت بهدوء حالم: (هل أنا هناك)، ومرت لحظة صمت قصيرة تحولت خلالها نظرات الرجل إلى باب تلك الغرفة وقال بهدوء: (أنت هناك…)….   

مشهد آخر:

كان للغبار رائحة طازجة، وكان للصمت معنى يتناغم مع النظرات التي راحت ترفرف فوق طرحة بيضاء توارى تحتها زمن من عمر النحات والمنحوتة وعمر آخر مازالت صاحبته لا تملك جرأة كافية لرفع الطرحة البيضاء عن جسد قد يكون حجرياً ولكن ثمة مخزون من المعاني في حناياه قد لا تطيق المرأة حملها وقد تهوي أمامها كما كان الرجل يترنح من وطأتها لحظة بعد أخرى حتى تقعده الحمى ويأخذ منه الإرهاق مآخذ عديدة..

نزع عبد الله الغطاء بعد لحظات من التأمل الصامت، وفغرت المرأة فاها دهشة، ولما تمض لحظات حتى بدأت حبات من العرق تتدحرج من جبينها الذي كان الشحوب أبرز ما فيه: (لم أكن أتوقع أن يحصل هذا لي، لقد ارتعش كامل جسدي بطريقة لا عهد لي بها) قالت المرأة، وقال الرجل: (لا أستطيع أن أعرف هل بإمكاني أن أستمر حتى النهاية، أشعر أني أضعف من ذلك، لقد أخفيت الأمر عن الجميع وتركته لنفسي زماناً، ولكن أتعبني كثيراً حتى انهارت قواي)، وابتسمت المرأة ثم قالت: (ولولا ذلك لكنت أنا في معزل عن جسدي المحبوس في غرفتك هذه)، ورفع نظره عن المرأة والمنحوتة معاً وهو يفتش عن كلمات عالقة في مكان ما من فضاء تعابيره المشبع برائحة الغبار والذكريات، إلا أن المرأة أوقفت كل محاولاته حين داعبت أصابعها الإزميل والمطرقة بحنان بالغ، ثم انتقلت إلى المنحوتة ومرت على شعرها الحجري الذي حاكى ضفائر خرنوبية مجعدة لفتاة في ريعان الصبا، ومسحت بذات الرِّقة على عضد المنحوتة وزراعها ثم توقفت عند المعصم الذي أغراها باختلاس نظرة سريعة إلى معصمها الذي أصبح في أقرب مسافة من نظيره الحجري، وبدون أن تتغير ملامحها أو طريقتها في الرحيل فوق الجسد الحجري تحسست الحافة المتشكلة عند نهاية لوح الكتف وتابعت رحيلها فوق منطقة العمود الفقري ثم توقفت أصابعها قليلاً أسفل الظهر لترنو بنظراتها المبهمة إلى منطقة نهضت بلطف إلا أن إزميل النحات توقف قبل إكمال التشكيل بشكل نهائي، ولما حوَّلت عينيها إلى الرجل لمحت مزيداً من العرق يتصبب من وجهه، وشعرت بأنفاس متقطعة تتزاحم في صدر يعلو ويهبط بسرعة غير عادية، وبنبرات خافتة حرصت صاحبتها أن لا تجرح بها جلال اللحظات قالت: (أعرف أنك لم تكن نائماً في تلك الليلة، لقد رأيت عينيك نصف مفتوحتين، بالفعل لم يعن لي ذلك شيئاً آنئذٍ، كنت مشغولة البال بما اعتراك من حمى أخافتني بالفعل، ولكن لم أكن أتخيل أن ذلك سيكون مشروع حياة لك أو لي، لا ترتبك مما قلت ولا تستغربه، أعرف تماماً أن هذه المنحوتة لتلك الفتاة التي رأيتها تلك الليلة، ويجب أن أقول لك إني سعيدة بها ولم يكد خبرها يصل إلى سمعي حتى راودني شعور بضرورة رؤيتها والتعرف إليها عن قرب، ولا أستطيع أن أخبرك كيف عرفت أن منحوتة لامرأة عارية تأخذ وضعاً ما لا بدّ أنه لتلك الفتاة التي هي أنا)، وقال بشيء من الارتباك: (لا أحد يعرف سرّ هذه المنحوتة، ولا المرأة التي تعود إليها أو التي ألهمتني إياها، ولا أعرف كيف حدث وعرفت ذلك)، وهمست وهي تتأمل معصم المنحوتة غير المكتمل وتنقل نظرها إلى معصمها: (لا يهمّ، لقد عرفت ذلك وحسب)، قالت ذلك وعادت لتأمل الأجزاء المنجزة من المنحوتة، وعادت ومررت يدها على الضفائر الحجرية، ومضت لحظات قليلة من الصمت المتوجس طأطأت المرأة خلالها رأسها قليلاً حتى بدا وكأنها تنظر إلى قدميها أو مكان قريب منهما، وحين رفعته بشكل مباغت وسريع مدت يدها وراحت تنقلها بين نهدي المنحوتة الناهضين بشموخ مميز، لقد حدث ذلك بشكل أشبه بوميض برق متتابع وبدا على وجه المرأة أنها تحاول أن توقف يدها في مكان ما إلا أنها لم تفعل، وآخر الأمر تراجعت نحو الخلف نصف خطوة خجولة وبارتباك واضح مدت يدها وفكت زراً من أزرار قميصها ثم فكت زراً آخر ورفعت نظرها عن نهدي المنحوتة لتنظر إلى ما ظهر من صدرها الذي بدا مختلفاً بعض الشيء عن الصدر الحجري الماثل أمامها، ومع محاولتها لفك الزر الثالث هربت نظرات الرجل بعيداً واندفعت المرأة نحو الشرفة المطلة على المنحدر الصخري وثمة دموع بدأت تطفر من عينيها مصحوبة بنشيج بدا واضحاً إنما يدها لم تتوقف خلال ذلك عن متابعة فك الأزرار كاشفة عن صدرها وبطنها بشكل تام، وحين حاول الرجل الاقتراب منها التفتت نحوه ومدت كلتا يديها فأمسكت بعضديه وهزته ببعض العنف قبل أن تداهمها موجة أقوى من الدمع والنشيج، وظل الرجل واجماً كأنما الحياة بكل أشكالها قد فرت من جسده فلم تترك إلا ارتجافاً ظاهراً لشفتين لم يقدر على التحكم بهما  وهو مأخوذ بالمشهد الذي سلبه كل المفردات الممكنة فتوقفت عيناه تماماً في عيني المرأة التي مازالت تضغط على عضديه لتسيطر آخر الأمر على نفسها وتهمس بحروف متقطعة وكلمات مرتجفة: (كان بودي أن أعيد إليك ذكرى تلك الليلة، ، ولكني لا أستطيع أن أكمل ما عزمت عليه، لا أستطيع)، وبعد أن تركت عضديه ومسحت بعض الدموع بباطن كفها تابعت: (يجب أن تكمل المنحوتة، يجب أن تكملها)، قالت ذلك وهي تعيد تأمل صدرها ونهديها وما ظهر من جسدها ولعلها شعرت بيد الرجل وهي تمرّ على ضفائرها الخرنوبية المجعدة وتعيد أزرار القميص إلى عراها بهدوء وصمت تاركة للمرأة فرصة لالتقاط أنفاسها ومسح  بقايا الدموع التي مازالت متجمعة حول عينيها، وقريباً من باب المشغل قالت: (سأسافر هذا المساء، قد لا أعود مرة أخرى إلى هنا، فأنا آسفة لأني فشلت بالوقوف أمامك كما حدث تلك الليلة، كان الأمر أصعب مما توقعت، ولكن يجب أن تكمل المنحوتة، حاول ذلك أرجوك)، وهزَّ الرجل رأسه دون أن يتكلم، فقد كانت حقيبة مفرداته فارغة من كل معنى…

بقية القصة:

حمل النحات إزميله والمطرقة ووقف أمام منحوتته للمرة الخامسة هذا اليوم، وكان قد فعل مثلها مرات عديدة قبل ذلك ولكن يده كانت تخذله في كل مرة..

ثمة صراخ كان يمنعه من إتمام محاولته، وكانت يده ترتجف بشكل غريب كلما اخترق الصراخ المبهم دائرة سكونه، وامتدّت الأيام وتتالت الخيبات وبدأ الوهن يجتاز يدي النحات فيتغلغل في أعماقه حتى ضمرت مفردات كثيرة من قاموس كيانه…

حاول أن يسترجع ذكرى تلك الليلة، وصرخ باسم (سمية) مرّات ومرّات ليقهر الصراخ المبهم إلا أنه فشل في ذلك وظلت المنحوتة تنتظراً أمراً ما..

(يجب أن تكمل المنحوتة، حاولْ ذلك أرجوك)، أغمض عبد الله عينيه وهو يستعيد كلمات سمية، وحاول أن يعتذر لطيفها إلا أنّ الطيف لم يحضر إلى مسرح لحظاته المضطربة، فقال بصوت منكسر يخاطب الفراغ المحيط به: (لقد حاولت، ولكن…)، قال ذلك ثم رفع مطرقته في الهواء إلا أن اليد التي كانت تحمل الإزميل ارتجفت بشكل غريب فتراجعت اليد الأخرى عمّا همّت به، وتراجع النحات فأسند ظهره إلى الحائط وراح ينظر إلى منحوتته دون أن يجهد نفسه بالتفكير بأي أمر كان..

مشهد أخير:

تمدّد عبد الله على سرير صغير كان قد وضعه قريباً من المنحوتة التي أصبحت كلَّ شيء بالنسبة إليه، ومازالت العلاقة بينهما تنمو يوماً بعد يوم، لقد أنجز هذا اليوم جزءاً ضئيلاً جداً من منحوتته وبرغم ضآلة العمل فقد وجد في نفسه بعض الراحة بعد أن تعود على تلك الخطوات البطيئة التي يرافقها جهد كبير لاستحضار طيف فتاته الذي اختلط بطيف آخر، ووقف زمن طويل من الحمى والغبار بينه وبين نحات لم تعد يداه اللتين بدأتا العمل كيديه اللتين تحاولان إكماله…

كان في مسافة بين النوم واليقظة، وكان خلال ذلك يرمق المنحوتة بعينين نصف مغمضتين، ثم يعود إلى إغماض عينيه تماماً محاولاً استحضار ذلك الطيف أو الهرب منه ومن كل طيف آخر…

وأغمض عينيه بشكل قسري وقاوم كثيراً رغبة جامحة بالانفلات من ذلك الإغماض، واستمر في ذلك لحظات أطول من المعتاد، ولكن حفيفاً هادئاً لقدمي زائرته أطاح بالمحاولة وأخرج اللحظات عن سيرورتها، قالت: (مساء الخير)، وفتح عينيه وثمة دهشة ترتسم عليهما، وظل هكذا لحظات دون أن يجيب، كانت جالسة على حافة سريره، وحين لاحظت ما اعترى الرجل كرَّرت تحيتها من خلال ابتسامة هادئة، وأجاب الرجل من خلال شفتين راعشتين ثم ذهبت عيناه الكليلتان إلى وجه منحوتته وطافتا جسدها قبل أن ترتدا بشكل خاطف إلى الفتاة فتفعلا ما فعلتاه مع المنحوتة، وقال كأنما يخاطب نفسه: (أنت لست سمية..)، وابتسمت الفتاة بعفوية، فأردف الرجل قائلاً: (لا يمكن أن تكوني سمية، إنها…)، وعاد ونظر مرة أخرى إلى منحوتته بتفحص دقيق، وقبل أن يرفع نظراته عنها قالت الفتاة: (هل كانت تشبهني إلى هذا الحدّ)، وقال دون أن ينظر إليها: (إنها هناك، أمامك، قالت قد تأتي، ولكن..)، وغادرت الفتاة مكانها واتجهت نحو المنحوتة بخطوات غاية بالتوجس، اقتربت منها إلى أقرب ما يمكن، تأملتها طويلاً، وحين ارتدّ نظرها إلى النحات كان جبينه يرشح عرقاً وثمة ارتعاش قد أخذ بكامل كيانه، كان يحاول أن يفتح عينيه إلا أنه لم يفلح بذلك تماماً، وخلال صراعه مع عينيه ودهشته وارتعاش جسده كانت الفتاة تفكّ أزرار قميصها زرّاً تلو الآخر، وقبل أن يتمكن الرجل من تجاوز لحظاته المضطربة كانت الفتاة تقف عارية في مسافة بين النحات ومنحوتته التي وقفت جامدة ولا أحد يمكنه أن يعلم إن كان ذلك الجسد الحجري شريكاً حقيقياً في ذلك المشهد، أم أنه مجرد شاهد آثر الصمت والانتظار…

كانت وطأة اللحظات تشتدّ شيئاً فشيئاً على الرجل وكان العرق يغادر جبينه عبر تجاعيد كثيرة تركها الزمن على وجهه شاهداً على تعاقب السنين، وكانت الفتاة مكانها تتراءى للرجل من خلال عينين نصف مفتوحتين ونصف مغمضتين..

(أنا ابنتها…)، قالت ذلك وهي تمسح حبات العرق عن وجه الرجل، ومد الرجل يده آمراً الفتاة أن تساعده على النهوض، وبخطوات متعبة تقدم من المنحوتة فمسح بيده على شعرها المتجعد قبل أن يحمل إزميله ومطرقته ويستسلم للغبار اللطيف الذي بدأ يختلط ببقايا حبات العرق وباللهاث الذي بدأ يعلو لحظة بعد أخرى…

ما تبقى من القصة:

 لقد سقط دفعة واحدة عند قدمي المنحوتة، وبصعوبة بالغة سحب جسده المنهك إلى زاوية الغرفة فأسند ظهره إلى الجدار وغطَّ بحلم عميق..

وتلاشى الغبار شيئاً فشيئاً، وبدت المنحوتة أوضح تحت تأثير شعاع الشمس الذي تسلل عبر الباب المطلّ على الشرفة، حاول أن يبعد نظراته عن الجسد الذي بدا على درجة لا تقاوم من الإثارة والإغراء، وفشلت كل محاولات النحات لتجاوز ذلك فظلت عيناه شاخصتين إلى المنحوتة التي مازال شعاع الشمس يمنحها أبعاد تتغير مع كل خطوة يخطوها ذلك الشعاع العابث…

كان جسد النحّات يتحرك بآلية لا عهد له بها، ولما يكد الغبار ينجلي وتذوب رائحته في العدم حتى وجد نفسه أمام المنحوتة مباشرة، داعب ضفائرها فأحس بلذة غامرة، وانسابت يده فتخللت الضفائر المجعدة واستقرت فوق العنق لحظة خاطفة سمع أو تراءى له خلالها أنه سمع شبه تنهيدة فسحب يده بسرعة وكاد يهرب إلى أي مكان لولا أنه تذكر أن التي أمامه مجرد منحوتة أبدعتها يداه، وعرك عينيه بشيء من التوتر قبل أن تعود يده لتستقر فوق خد المنحوتة تاركة عينيه في نصف إغماضة اعتادتا عليها منذ سنوات، كانت شفتاه تحت تأثير قوة مبهمة تقتربان من شفتي المنحوتة وكانت ثمة أنفاس حارة تلفح وجهه، ومرة أخرى كاد يهرب من ذلك المكان ويفلت زمام الحالة من يديه لولا أنه تمكن من إقناع نفسه أنَّ ما يشعر به مجرَّد تهيؤات وأنَّ الأنفاس الحارَّة تلك ما هي إلا أنفاسه التي تعود مرتدة إليه بعد اصطدامها بالجسد الحجري، وأوغل أكثر في ضياعه، واختلطت صور ومفردات ومعان كثيرة في حقيبة لحظاته، وراوده شعور حقيقي بأن الحمى قد عاودته، ولعلها أكثر قسوة من كل حمى عرفها قبل ذلك، لقد كانت شفتاه غارقتان في شفتي منحوتته، ويداه تحتضنان جسدها الذي بدأت تتماوج فوقه ضفائر خرنوبية مجعدة، وبدا وكأن يديها قد تحررتا من أسرهما الحجري وراحتا تطوقان بلطف ونعومة جسد النحات الذي ما عاد يملك أية سيطرة على ما يعتريه من أشياء لا تفسير لها…

ومرت لحظات أخرى، كانت وتيرة الحمى تزداد باضطراد، وكان العرق يسيل بشكل غير معتاد، وكان الجسد الحجري خلال ذلك ماضٍ في استنزاف كل ما لدى النحات من طاقة وهو مستمر برقصته المجنونة متجاوباً مع كل ما اختزن زمن الرجل من جنون ومغادراً به إلى أقصى المسافات المجنونة، وقبيل الانهيار انتفض الرجل كمن صعقه تيار كهربائي، فأفلت المنحوتة من يديه وبذات اللحظة شعر أنها قد أفلتته هي الأخرى من يديها الحجريتين، أذهله ذلك، فعاد وعرك عينيه بشدة لكنه لم يتمكن من الرؤية جيداً إلا أنه أدرك أنه والمنحوتة قد غادرا الغرفة وأصبحا عند حافة الشرفة المطلة على المنحدر الصخري العميق، حاول أن يتساءل كيف حدث ذلك إلا أنَّه لم يتمكن من ذلك تحت وطأة شعوره بأن اختلاط في عقله قد حجب عنه كل التفسيرات الممكنة لما يحدث..

لقد انتفض ثانية وبقوة أشدّ، وبلا أية مقدمات أمسك بعنق المنحوتة وصرخ: (لن أكون “بجماليون” آخر، لن أكون..)، وحين رأى في عيني منحوتته دعوة لا تقاوم، صرخ بكل ما يملك من قوة: (أنا في كامل قواي العقلية، أنا لست مجنوناً)، قال ذلك وبلا تردد دفع بالمنحوتة نحو الهاوية، وتراءت له في اللحظة الأخيرة ابتسامة غامضة على وجه المنحوتة قبل أن يتأكد أن الضفائر الحجرية لم تعد كذلك فقد انتشرت في الهواء وبدأت تتماوج وتتراقص متناغمة مع تقلب الجسد في طريق رحيله نحو النهاية المرعبة، دقق النظر أكثر في الجسد الذي بدأ يصغر ويصغر وهو يقترب من الصخور المنتشرة على المنحدر أسفل الشرفة، لقد تأكد أن اليدين اللتين من المفترض أن تكونا حجريتين تتحركان بآلية تتراوح بين آلية جناحي الطائر وآلية يدي السبّاح في الأمتار الأخيرة قبل نهاية المسابقة، لقد فغر فاه ومدّ يديه كالمتوسل وحاول الصراخ أو فعل أي شيء إلا أن شللاً مباغتاً داهم كل خزائن كلماته وتعابيره، وحين اصطدم الجسد بالصخور أغمض الرجل عينيه إلا أنه عاد وفتحهما برعب بالغ حين لم يصل لسمعه صوت تحطم المنحوتة كما يفترض، لقد شاهد نقطة سوداء على الصخرة التي تقع أسفل الشرفة مباشرة، نقطة سوداء فقط وحين حاول أن يتبين حقيقة تلك النقطة تجمدت عيناه واسودت كل الأشياء…

آخر ما قيل: 

في الصباح التالي لتلك الحادثة، كانت امرأة بدينة تجيب على سؤال إحد الصحفيين قائلة: (لم يظهر جارنا عبد الله منذ عدة أيام، وأظن أن آخر من كان يزوره في مشغله فتاة شابة لا أحد في الحي يعرف من هي، كانت في الثامنة عشرة أو في العشرين من عمرها، وهي الأخرى اختفت باختفاء الرجل)، وقالت فتاة ادعت أنها ناقدة فنية تعمل لحساب صحيفة مشهورة: (كان النحات يعكف على إنجاز مشروع حياته، أقصد منحوتة المرأة العارية، لقد عمل عليه أعتقد لأكثر من نصف قرن، ولكن المفاجئ أن المنحوتة اختفت باختفاء النحات، ولأول مرة وجدنا في مشغله وعلى الشرفة المطلة على المنحدر الصخري منحوتة تمثّل النحات نفسه بوضع غريب يصعب تفسيره، لقد كان فاغراً فاه، عيناه جاحظتان، ويداه تمتدان بتوسل غريب نحو الهاوية، كان الذهول واضحاً على ملامح المنحوتة بشكل ملفت)، وقبيل انتهاء الناقدة الفنية من كلماتها تقدّم رسام عجوز من بين الحضور ومدّ يده إلى الوجه الحجري لافتاً انتباه الناقدة إلى دمعة تكاد تسيل من عين المنحوتة، ومدت الناقدة يدها متحسسة تلك الدمعة التي لم تشك لحظة أنها حقيقية، وما إن لامست أصابعها الدمعة حتى ارتدت بجفول، ولم تملك إلا أن تقول: (بالفعل هذا مذهل، كيف فعل النحات ذلك..)، ومضت المرأة البدينة التي عرّفت على نفسها بأنها تسكن بجوار المشغل، وأنها زارت النحات عبد الله مرات عديدة في مشغله، وغادر الصحفي فالرسام فالناقدة الفنية وغادر آخر الأمر كل من كان هناك، فلم يبق إلا المنحوتة شاخصة بعينيها إلى نقطة سوداء على صخرة أسفل الشرفة بدأت طيور البحر تتزاحم حولها غير عابئة بتلك الدمعة الغريبة التي تكاد تسيل من عينين حجريتين..  

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s