(س) قرية سكّانها لا يحلمون
(فصل من عمل سرديّ روائيّ بعنوان / مجمع نفايات… روايات بلد)
عبد القادر حمّود
ربما كان (الحلم) من حقّ كلّ إنسان، وربما كان ليس من حقّه، أنا لا أعلم ذلك فلائحة حقوق الإنسان لم تنصّ على مثل هذا الحقّ صراحة ولم تنكره صراحة أيضاً، وهذا الأمر يحتمل تفسيرين، أولها أنَّ المشرِّعين تجاهلوا هذا الحقّ لاعتبارات تخصّهم كأن يكون هذا الحقّ خطراً على (يوتوبياهم)، أقصد (مدينتهم الفاضلة)، وثاني التفاسير هو أنَّ المشرعين وجدوا أنْ لا داعي لذكر هذا الحقَّ في لائحة الحقوق لأنه بعض ما فُطِرَ الإنسانُ عليه، وأنَّ الإنسان سيحلم سواء أذُكِرَ هذا الحقّ في اللائحة أم لم يُذكر، وبالنتيجة فـ(الحلم) أمرٌ طبيعيٌّ موجودٌ في تكوين الإنسان ولا يمكن لأحد أن يتحكَّم به سواء أكانَ سلباً أم إيجاباً، ولو أوقفنا كلَّ عدادات الوقت للحظاتٍ نتأمل فيها هذه الكلمات لوجدنا أن شعوباً لا تُحصى في بلدانٍ لا تُحصى تعتقد أنَّ كلماتِنا هذه إضاعة للوقت، وهي فائضُ كلامٍ لا أكثر، وبالتالي فهي كلماتٌ غير جديرة حتى بالوقوف عندها أو عليها فلا أحدٌ هناك (في تلك البلدان) لا يحلم، ولا أحد لا يسعى لتحقيق أحلامه، والحلم وكل ما يتعلق به من أمور لا تلفت الانتباه لأنها تمضي في سبيلها بسلاسة وانسياب طبيعيّ بلا عوائق أو منغصات.
ولو اعتبرانا أن هذا الأمر قاعدة عامة من المفترض أن يتساوى فيها كلّ الناس المقيمين على سطح الكرة الأرضية، وقد لا نكون مجانبين للحقيقة إن قلنا إنّ الحلم واجب على كل إنسان وليس حقّا من حقوقه، ولعله ميزة للإنسان على باقي المخلوقات، ولكن ثمة مشيئة ما، وثمة عوامل تخرج بالقطار عن خطّه، وبالسفينة عن مسارها وكذلك تفعل بالطائرة وبالإنسان، فهل نعتبر ذلك خروجاً عن القاعدة أم أنه استثناء من تلك القاعدة، مهما يكن فقد كان هناك استثناء أو خروج عن القاعدة التي من المقترض أن تقول (إن من حقّ كل إنسان أن يحلم) ولعلها كانت ستقول: (إن من واجب كل إنسان أن يحلم)، وهذا الاستثناء الذي أشرنا إليه لم يكتشفه منقّب أو عالم آثار، إنما هو استثناء يشارك باقي سكان الأرض بكل ما لديهم إلا (الحلم) فقد توقفت ماكينته منذ عقود طويلة وأصبح إنساناً لا يحلم، ولا يهمّ إن لم يصدّق أحد ممّن يعيشون خارج دائرة ذلك الإنسان الذي فقد مكوّناً أساسياً من مكوناته بأن هذا الأمر موجود، ولا أحد معنيّ بتقديم الدلائل القاطعة على وجوده، فمن تعوَّد أن لا يحلم لا يهتم بأمر آخر مهما بلغت درجة أهميته، ولعل شعاره الوحيد الذي حفظه وتوارثه كابراً عن كابر هو ذلك الشعار الذي يقول: (أنا لا أهتم لوجود أحد لأني لست معنياً بوجودي)، ولكن وكمحاولة لتقريب الفكرة للذين يمارسون حقّ أو واجب الحلم بلا أية أسئلة أو مشقات نشير إلى أنه لِعلّة ما انقرضت الديناصورات رغم جبروتها تاركة الأرض لمن هم دونها قوَّةً وبأساً وهذا أمر يجعل الفكر في (حيص بيص)، ولعل كل الناس أو أغلبهم صدّقوا ما قيل عن الديناصورات دون مناقشة أو تفكير يُذكر برغم أنهم يعيشون على بُعد أكثر من خمسين مليون سنة من أقرب ديناصور حيٍّ إليهم، وبالطبع أقصد بكلامي هذا الديناصور الحقيقي ولا أبتغي انزياحاً لغوياً أو دلالة أخرى لكلمة ديناصور فهي تحتمل الكثير من ذلك، وعلى كل حال ولِعِلَّةٍ أُخرى كانت هناك قرية صغيرة في هذا العالم الكبير تمكَّنت من أنْ تجد لها موقعاً في الخارطة، وتمكنت من الاستمرار حتى لحظتنا هذه دون أيِّ احتمال لانقراض مخلوقاتها من بني البشر، ومازالت تلك القرية تحثُّ الخطوات في الزمن، ولنفترض أن اسم تلك القرية (س)، ومهما يكن فأنا لا أستطيع أن أميز بالتحديد هل تمضي قرية (س) باتجاه عقد ثالث ثم رابع فأكثر في الألفية الثالثة بعد الميلاد، أم أنها خالفت نواميس الكون فقرَّرت العودة إلى الخلف لتوغل في ظلمات التاريخ مرةً أخرى بحثاً عن الأسلاف المنقرضين، وليس المقصود بالأمر الديناصورات وحدها فثمة أسلافٌ كُثُرٌ قد يتعرَّف عليهم كلّ من سيعرف يوماً أن إنسان هذه القرية تعوَّد أن لا يحلم، ولا نعرف كيف تعوَّد ذلك، ولا نعرف أيضاً هل هو محروم من الحلم لأنه ليس من حقوقه أو من واجباته، أم أنَّ الأمر مجرَّد تراكمات للفشل أدَّت بأبناء القرية إلى هذه النتيجة التي أصبحت عادة، ولعلها صارت مكوِّناً أساسياً من مكونات كلّ مَنْ سوَّلت له نفسه الولادة على أرض تلك القرية والعيش فيها..
لقد قالت (مديحة بنت محمد المرعي): (في بعض الأيام الخوالي حاولت أن أحلم بأمر أخجل أن أقوله الآن، ولكن في كلّ مرّة كنت أفشل، ومرة بعد أخرى وإيغالاً في الفشل أصبحت أفشل في تصوّر مشروع الحلم، ولهذا فقد بقيت بعيدة عن الحالة الحلمية بشكل عام، وآخر الأمر أقلعت عن ذلك المشروع وكل مشروع غيره، ونسيت أو حذفت من تكويني الفكري كل حالة يمكن أن أدعوها حالة حلمية، ومن يومها عدت كبقية نساء القرية، آكل كما تأكل جدتي، وأتحدّث كما تتحدّث، وبرغم أني أدرك تماماً أنّ كلّ آلات الحياة بمعناها العامّ متوقّفة باستثناء المعنى البيولوجي لها، فأنا مرتاحة أكثر، ولا يهمني إن أشرقت شمسُ الغد أم لم تشرق، فالأمر بالنسبة إليّ سِيّان)، وهمستْ بُعَيد صمتٍ قصيرٍ الحاجة (سعدى) زوجة المختار: (زوجي قال إن إسرائيل أخذت في حرب حزيران مدناً وقرىً ومزارعاً وجبالاً وسهولاً كانت لنا، وقال إننا سنحارب كي نعيد الأرض، لا أعرف لماذا وجع الرأس، تأخذ إسرائيل وغيرها ما تأخذه، وتترك ما تتركه، لا أعرف إنّ بعض الناس يتعبون أنفسهم بأمور لا جدوى منها، راحت فلسطين، وراح غيرها ونحن كما نحن، لماذا وجع الرأس إذاً)، وقالت (زينب المحمود) دون أن تنظر في عيني الحاجة سعدى: (يا خالة، ولكنها في النهاية أرضنا)، وقالت الحاجة سعدى: (ومن قال لك إني لا أعرف ذلك، وحتى لو إسرائيل وصلت إلى ضيعتنا تبقى أرضنا، قد يختلف علينا اسم الحاكم أو شكله، وغير ذلك لا أظنّ أنّ شيئاً سيكون، بالله عليك يا بنت أختي بماذا يختلف حكّامنا عن حكّامهم، كلهم من طينة واحدة، قولي إنك خائفة من المخابرات فقط، يمكن أن أصدقك)، وقالت زينب بحروف شبه مرتبكة: (والله يا خالة معك حقّ، الأفضل أن لا نفكر بأيّ أمر، همّنا يكفينا)، وعقَّبت الحاجة سعدى: (إييييييه، يا حسرتي لا أدري كم ألف شاب قتل في حرب حزيران ثمّ في حرب تشرين، وربما كان ثلاثة أضعافهم قد قتلوا في حرب لبنان فيما بعد، ولا أعرف كم دار تهدمت على ساكنيها، وآخر الأمر لم نرَ “تمرَ البصرة ولا عنبَ الشام”، تيتي، تيتي…)..
وفي وقتٍ لاحقٍ كتب (عمر العباس) على صفحة (الفيسبوك) الخاصة به: (أنا من قرية “س” لم أغادرها قَطّ إلا لبضع سنوات أكملت فيها دراستي الجامعية في مدينة قريبة، ونلت الترتيب الأول على دفعتي بمعدل ممتاز جداً ولكني لم أستطع متابعة دراستي العليا لأن الجامعة رشّحت ثلاثة من زملائي الذين حصلوا على ترتيب أدنى بكثير من ترتيبي، قيل لي إن أحدهم ابن مسؤول كبير، وثمة فتاة قيل إنها ابنة أخت وزير التعليم، وقيل، وقيل، ولأن أبي قد توفي ونحن لما نزل أطفالاً صغاراً “أقصد أختي وأخي وأنا” ولم يترك لنا أبيضاً ولا أحمراً شأنه شأن معظم أبناء قريتي فقد قررت العودة إلى القرية مكتفياً بما حصلت عليه من خيبات، ودفنت الحلم الذي كان من الممكن أن يولد برغم أني من قرية سكانها لا يحلمون، لا أستطيع أن أخبركم إني أعمل الآن بائعاً للخضار، فكثير منكم يظنّ أني أدرّس التلاميذ في مدرسة ما، أو أني أقوم بعمل يتناسب مع شهادتي، ولكن يجب أن أخبركم إنَّ كلَّ شيء ممكن في بلدي)..
وعلّق (وحش البراري) على ما كتب عباس، وبالطبع فوحش البراري ليس اسماً حقيقياً لصاحب الصفحة، إنما درجت العادة أن تكون الأسماء وهمية في أغلب الحالات لعذر ما أو بلا عذر يذكر، وللمناسبة فعمر عباس أيضاً ليس اسماً مدوَّناً في بطاقة صاحب الصفحة إنما هو اسم افتراضي وضعه ذلك الشاب على صفحته لأسباب أظنّ أنّ لا أحداً يجهلها، ونعود لتعليق وحش البراري على ما كتب عمر إذا قال: (أنا من قرية “س” أيضاً، وهذا ما جعلني قريباً من كلماتك متفاعلاً معها ومنفعلاً أيضاً، فأنا لسبب مشابه يا صديقي هجرت البلد ولن أعود إليه، كان الله معك ومع من تبقّى من سكّان قريتي)، وانتهز الفرصة عمر العباس، فسأل: (أشكرك يا صديقي، ولكن أخبرني هل تعوّدت أن تحلم في البلد الذي هاجرت إليه)، ومضت دقائق، ثم نصف ساعة، ومضى وقت آخر دون أن يجيب وحش البراري، وأغلق عمر صفحته تحت وطأة النعاس، وحين استيقظ في صباح اليوم التالي قرأ الردَّ الذي أرسله ابن قريته المهاجر: (للأسف يا صديقي، أنا هنا أيضاً لا أستطيع أن أحلم، ولو حاولت ذلك فالأمور ستكون أسوأ مما هي عليه، لن تتصور حجم الجهد الذي أبذله لقتل أي بادرة حلم، ولن أدعك تتساءل لماذا، فأنا أخشى أن أحلم بالعودة إلى قريتي لو سمحْتُ لمنظومة الأحلام بالعودة، لعلك عرفت كلّ شيء يا صديقي، ولعلك عرفت سبب تأخري بالردّ أيضاً)…
وفي مكان آخر من القرية، وبلا مناسبة وفي حديث كان يتمنى أن لا يسمعه أحد سواه قال (سليم القصبة) أحد وجهاء القرية: (كلما أغمضتُ عينيَّ محاولاً استجلاب حلم تظهر أمامي صفحة بيضاء بلون الكفن تماماً)، وعلق جاره (عبد الغني حج عارف) على تلك الكلمات التي لا يعلم غير الله كيف سمعها وهو المشهور بضعف سمعه إلى حدود الصمم: (أما جرّبت كتابة شيء على تلك الصفحة)، تمتم سليم بعد أن قرّب فمه من أذن عبد الغني بشكل لافت: (أنْ لا تحلم خير من أنْ ترمي بنفسك إلى التهلكة)، هزّ عبد الغني رأسه، وفعل سليم مثله، ثم ذهبا، كلٌّ في طريق…
