د. محمد لطفي: أوكرايينا.. والرأي الآخر

أوكرايينا .. والرأي الآخر

منذ بداية الأزمة، ومن ثم الحرب في أوكرايينا، كنت ولازلت أقرأ وأتابع تحليلات، وآراء ونقاشات، مختلفة شكلا”، وهي بالغالب متفقة” مضمونا”، تتناول ديكتاتورية وإجرام نظام الرئيس الروسي بوتين، الذي بات برأي الجميع أكبر مصدر خطر يهدد السلم العالمي.
واليوم أكتب، وبكل تجرّد، وبعيدا” عن العواطف والاستعطاف، وحتى عن أخلاق الفروسيّة التي لازال ينادي بها البعض، باعتبار أن كل هذه القيم، ليس لها أدنى معنى في عالم السياسة، وبالتالي الحروب الناجمة عنها، خاصة” عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي للدول.

الجميع متفق هنا على إن الرئيس الروسي بوتين هو ديكتاتور دموي، يقود نظاما” ديكتاتوريا” مافيوزيا” مجرما” مثله.
والكل متفق أيضا”، على أن أوكرايينا هي الآن ضحية حرب شاملة تُشَن عليها دون مبرر من قبله.

على أن الاختلاف، وبرأيي المتواضع، يكمن بتحميل روسيا ورئيسها وحدهم وزر هذه الحرب الفتّاكة.
فالغالبيّة تتناسى للأسف أن هنالك من وضع أوكرايينا، ومنذ سنوات طويلة، بوجه المدفع مع روسيا، وأقصد هنا حلف الناتو، الذي دعم وصول نظام حكم ينحى باتجاه أقصى الغرب، حيث الوعود بالانضمام للناتو وللاتحاد الأوربي، والتنعّم بخيرات النظام الديموقراطي الغربي.
هنالك من يتغاضى عن بعض الحقائق والركائز في عالم السياسة، وبالذات في حالة روسيا، الدولة الكبرى، الوارثة لدولة عظمى كانت في يوم من الأيام أحد قطبين يحكمان العالم.

فروسيا ليست دولة إقليمية عادية كتركيا مثلا”، وهي بمقدراتها المختلفة، من بشر وثروات، وبمخزونها النووي الموروث، تفرض نفسها كدولة كبرى رغما” عن الجميع.
بعد انفضاض رابطة الدول المستقلّة، التي كانت منضوية تحت لواء السوفييت، ورثت روسيا الدور الأكبر لسالف الذكر، ومن ضمن ما ورثته، مفهوم الأمن القومي الخاص بها، كدولة كبرى، تملك أكبر مخزون للسلاح النووي في العالم أجمع.
أما بيلاروسيا وأوكرايينا، فهما دولتان، كانتا على مرّ التاريخ جزء” لايتجزّأ من الامبراطورية الروسية القديمة، وحتى بعد الثورة البلشفية، كانتا حجر دعامة للدولة الوليدة، بشكل يختلف تماما” عما كانت عليه باقي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، بسبب التداخل الديني المذهبي والعرقي السلافي، وحتى الديموغرافي بين هاتين الدولتين، والدولة الأكبر روسيا.

استطاع فلاديمير بوتين، بطريقة أو بأخرى الحفاظ على بيلاروسيا، وديكتاتورها كحليف استراتيجي رئيس ووثيق الصلة.
ولفترة ما، كان هنالك نظام حاكم في أوكرايينا، يسبّح بحمد موسكو، ويشكل وسادة تمتص الصدمات القادمة عبر الحدود الغربية والشمالية للاتحاد الروسي إن لزم الأمر.
إلى أن استطاع الغرب، قلب نظام الحكم فيها، وإيصال فئة أقنعها هو بفكرة انضمامها لحلف الناتو، ومن ثم للاتحاد الأوربي، طبعا” والهدف هو أن تصبح روسيا تحت مرمى حجرهم، وبالتالي، وبشكل أو بآخر، تتحول أوكرايينا من وسادة هوائية تقي من الصدمات، إلى خنجرٍ ناتئ، ينخز خاصرة الأم الكبرى روسيا عند كل هزّة سياسية تقتضيها تقلبات الوضع العالمي.

ويريدون من روسيا أن تقبل بهكذا واقع، يعلم الجميع أن تحقيقه سيفتح الباب لمشاريع إسقاط الاتحاد الروسي كدولة كبرى، وتفكيكه، ومن ثم تحويله لدويلات وكانتونات، تتبع هذا وذاك من دول الإقليم.
أي مبتدِئ في عالم السياسة كان ليقبل بتمرير هكذا سيناريو انتحاري؟
وأي غبيّ ساذج، كائنا” من كان في منصة الحكم الروسي، كان ليقبل بالسكوت على مايجري الإعداد له في مطابخ أمريكا والناتو؟

كان رد فعل بوتين الأولي، باجتياح القرم، وتشجيع الحركات الانفصالية في شرق أوكرايينا، رسالة تحذير قوية لجماعة الناتو، لإيقاف مشروعهم الذي يهدد بشكل واضح بقاء الاتحاد الروسي، ولكن الناتو لم يصغِ لردود بوتين الصاخبة، بل ولم يأخذ حتى بعين الاعتبار، ماقد تشكّل هذه الردود من خطر يتهدد الشعب والوجود الاوكراني بمجمله.

استمر الأميركان وقادة الناتو من خلفهم، بتحريض الحكومة الاوكرانية، على تحدي روسيا، والاستمراء بالارتماء في أحضان الغرب، دون الحصول على أدنى مقابل من دعم مادي واقتصادي وعسكري لهذا الجنوح المجّاني باتجاه الغرب.
وهكذا، تُرِكَت أوكرايينا، تتنعّم بحلم الغرب الديموقراطي الوردي، فيما كان الروس يبنون خططهم للانقضاض عليها، وتمزيقها، أو حتى ابتلاعها.

لو كان رجالات الناتو يبدون أدنى اهتمام بشعب هذا البلد وبجيشه، لأمدوهم بكل مقومات بقائهم، طيلة السنين التي تلت سقوط القرم بيد جيش بوتين.
على أنه، ووفق الفكر الاستراتيجي القويم، كان الأجدر بهم أن يتركوا أوكرايينا، بلدا” محايدا” بعيدا” عن تجاذبات الأحلاف، يعيش حياة اقتصادية وسياسية مستقرة لاتهدد أيا” من دول الجوار، ولكان هذا كفيلا” بسحب البساط من تحت الرئيس بوتين، ولجنّبه خوض غمار حرب ستحرق أطرافه وتستنزف بلده مثلما ستصيب أوكرايينا وشعوبها.

عندما رفضت أمريكا التعاون مع كاسترو إبان انقلابه على باتستا رجل أمريكا في كوبا، فتح الزعيم السوفييتي خروتشوف ذراعيه لحاكم كوبا الجديد، الذي سرعان ماتحوّل للرفيق كاسترو، وكعربون شكر لخروتشوف، قبِل كاسترو بنشر صواريخ نووية سوفييتية في جزيرته، كافتتاحية تعاونه مع حلف وارسو، العدو الأوحد لحلف الناتو آنذاك.
ويجنّ جنون أمريكا، إذ أن روسيا نصبت صواريخها على بعد 90 كيلومترا” فقط من سواحل ولاية فلوريدا، ولفترة تقل عن أسبوعين، كان العالم كله يقف على شفا حرب نووية تهدد وجوده بالأكمل.
كان تمدد السوفييت لكوبا يمثل أكبر تهديد في تاريخ الأمن القومي الأمريكي، حتى أنه فاق الأثر المدمر الذي أحدثه هجوم اليابانيين على بيرل هاربر.
كل العالم وقف آنذاك مع أمريكا، إلى أن أزالت روسيا مرغمة” صواريخها من الجزيرة، وبعد ذلك، عملَت أمريكا باستمرار على تنظّيم حملات عسكرية عديدة، ودعمت جماعات متمردة كثيرة بغية الاطاحة بنظام كاسترو.

ألا يشبه مايحصل اليوم في أوكرايينا، تلك المصيبة التي حصلت في بداية ستينيات القرن المنصرف عندما تهوَّر خروتشوف وأرسل صواريخه النووية إلى سواحل كوبا.
هل للأمريكان أمن قومي يثورون للمساس به، ولا يوجد للروس شيء مماثل.
لاأقول ذلك لأبرر للمجرم بوتين فعلته، ولكن، لأوضح مقامرة أمريكا بوجود أوكرانيا بالكامل، لأجل الضغط على روسيا وتهديد أمنها القومي.

صدّام حسين فعل بالكويت الشيء المشابه عندما شعر بخطر محدق يتربص بالعراق قد تكون الكويت مصدره.
وحافظ الأسد، اختطف لبنان وسيادته لسنين طويلة، لمبررات مشابهة.
كما أن إسرائيل أبادت نصف سلاح الجو السوري خلال أقل من ساعة، عندما أصرّ السوريون على نصب صواريخ سام 6 في سهل البقاع اللبناني، الأمر الذي هدد الأمن القومي الاسرائيلي.

أمثلة كثيرة، قد يوجد مايشابهها حتى في حياتنا اليومية، نقوم بمعالجتها بشكل مشابه عندما نشعر بخطر يتهدد كياننا ووجودنا.

قبل التباكي على حال الشعب الأوكراني المغرر به، كان من الأجدى أن يتم تجنيبه التورّط بهكذا موقف لا يُحسَد عليه.

والآن، يرسلون له مضادات الدروع، وغيرها، آملين بقاء أجزاء وجيوب من أوكرنيا خارج سيطرة الروس، ليضمنوا من خلالها، خوض حرب استنزاف، قد تنتهي بسقوط نظام بوتين المافيوي، ولكنها، ستسقط قبله بالتأكيد أوكرايينا وشعبها في دوامة حرب تعود بهم لعصور ماقبل الاتحاد السوفييتي.

أفضل مانفعله في الحرب، هو أن نمنع وقوعها.

د. محمد لطفي 28.02.2022

*من صفحة الكاتب في فيسبوك

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s