فضل أحمد الأشقر: قابل للكسر

” قابل للكسر “


في وطني الجميل قريةٌ وادعةٌ تمتدّ على ضفاف مجرى السّيلِ الّذي كان يذهب بالمزروعات و بعض الماشية؛ عندما يغضب.

تسوّرها الجبالُ من الجهات الثّلاثة، لتبقي الجهة الشرقية مفتوحة للشّمس، فتحتضن الصّباح، يعلو المنازل بمئات الأمتار جدارٌ عريضٌ و عالٍ من الإسمنت المسلّح، حاجزا خلفه ملايين الأمتار من مياه المطر، ممسكا بعشرات المجاري السّيلية و كأنّه رجلٌ عجوزٌ يقبض على لحيته الكالحة من نهايتها.

     في ذلك المساء الشّتوي، ترى قطعان الغيوم غير المنتظمة تملأ السّماء، تتخلّل فرجاتها بعضُ النّجوم المتلألئة و كأنّها تدعو الأشجار الحراجيّة المتناثرة بين المنازل لاستقبال الرّبيع الّذي طال انتظارُه.

     على شجرة الحور الشّامخة بالقرب من منزل قديم من الحجارة الكبيرة المتفاوتة الحجم و الذي يعصب سقفَه القرميدُ الأحمر، و كأنّه يبرز هويته، بأن القاطن من الوجهاء؛ تقف البومةُ تراقبُ نوافذَ المضافة الّتي يجتمع فيها بعضُ رجال القرية بشكل شبه يومي للسّهر وتبادل الأحاديث و لعب الورق عن رهان مقبوضة أو غير مقبوضة ..حسب حال الخاسر، و غالبا ما يكون الرّهانُ صندوقا من البرتقال أو (علبة راحة و بسكويت).

     البومة تعرف أهل القرية و بيوتهم و قصصهم وأسرارهم و ماشيتهم، تتنقل بين الأشجار بصمتٍ تراقب النّوافذ و الأحاديث، وبالوقت ذاته تنتظر رزقها الذي يسوقه اللهُ لها، فهي تفضّل فأر الحقل للعشاء ولكنها لا تمانع من التهامِ أفعى أو دودةٍ كبيرة.

     يتصدّر السّهرة المختارُ بالقرب من المدفأة بين مجموعتين من الوسائد و تحته جلدُ كبشٍ ذي صوفٍ غزير، و كأنّه مرياع القطيع…

يجلس بجانبه أبو حمدي تاجرُ الماشية و من الجانب الآخر الشّرطي أبو عزام الذي يخدم في مخفر البلدة القريبة، ما يميّزه عن البقيّة بالإضافة لشاربيه المفتولين ؛ هو غناه المفاجئ، و من ثمّ عدنان صاحب الدكّان و يوسف راعي الماشية و هو الوحيد الّذي لا يكمل السّهرة بسبب استيقاظه المبكّر للذّهاب إلى المرعى( أو هكذا يدّعي)..، و طبعا بعض الرّجال الآخرين من القرية.

     يوجّه المختار حديثه ليوسف: “بما أنّك ترعى بجانب السّدّ، كيف وضعُ المياه و هل بقي الكثير حتى يمتلئ السّدّ؟”

يوسف:

“و الله يا مختار مثلما تعرف أنّ الهطولات هذه السّنة كانت غزيرة و قاربَ السّدُّ على الامتلاء.”

الشرطي:

“الله يستر! هذه أوّل تجربة لمتانة السّدّ، إن تحطّم سيجرف القرية لقعر الوادي.”

المختار مقاطعا:

“تفاءلوا بالخير.. لقد شيّدته شركة الإنشاءات العسكريّة، و هي من أفضل الشّركات.”

الشّرطي:

“اسمع يا مختار، ربما معك حقّ، و لكن أنا أعرفهم، معظمهم لصوصٌ يسرقون الإسمنت و يضعون الأحجار بكمّيات كبيرة لتعويض النّقص.” قالها و ابتسامتُه الماكرة تتسيّد محيّاه.

يوسف:

“كنت أرعى بالقرب منهم وقت الإنشاء، و رأيتهم يضعون الأحجار مع الإسمنت.”

يقاطعهم عدنان:

“أنت يا يوسف تؤيّد الشّرطيّ أبا عزّام دائما.. حتى إن قال لك إنّ اللّبن أسود..!”

يوسف:

“ليس هكذا يا عدنان، و إنما بحكم تواجدي بقربهم.. ، و ربّما معك حقّ من ناحية تأييدي لأبي عزّام.. ( المحبة من الله) هل عندك مانع..؟”

يضحك الجميع و يتابعون مسامرتهم و نقاشاتهم التي لا تنتهي إلّا بالبدء بلعبة الورق المتّفق عليها، و هنا ستتحوّل النّقاشات إلى صراخ و تبادل اتّهامات بالغشّ والبعض ربّما تصل به درجة الغضب لتمزيق ورق اللّعب، طبعا بعدها تضع الحربُ أوزارها و يتصالحون.. وعدنان صاحب الدكّان؛ غالبا ما يحتفظ بعلبة ورق جديدة في جيبه للطّوارئ.

     تتركهم البومة، و تطير باتّجاه منزل الأرملة؛ طبعا هذا ليس اسمها! فهي أمّ محمود و زوجها (أبو الزندين) هذا لقبه الذي تُطرب لسماعه ، و كم تتمنّى أن ينادوها بزوجة “أبي الزندين” بدلا من أمّ محمود أو الأرملة، ولكنه قدر الله الذي لا يردّ، فشهامته المعتادة أوردته التّهلكة؛ عندما اندفع باتّجاه الجرّار المنزلق ليحمي رفاقه المنشغلين بعملهم في بناء السّدّ، و لكن الجرّار كانت زنودُه أقوى؛ فدهسه و انقلب، مخلّفا وراءه أرملةً جميلة و خمسَ بنات و جنينًا في بطنها.

هذا كان منذ ثلاث سنين، وُلد محمود خلالها و تعلّم المشي و النّطق و ذاق طعم اليتم قبل الحليب.

     تقف البومة على شجرة السرو المطلة على منزل الأرملة، هذا المنزل بالذّات لا يشبه باقي المنازل، إنه ينتصب كمارد أصابه الهرم، فترهّلت عضلاته و كساه الشيب و الوهن. تنظر أمّ محمود لبناتها النّائمات على فراشين ملتصقين و حسب ترتيب العمر كعنقود العنب المستند استسلامًا على ورق العريش، أما طفلُها محمودٌ فينفرد لوحده بفراشها ينتظرها أن تفرغ من الاستحمام و تغيّر ثيابها للتخلص من رائحة روث البقرة الّتي تقوم برعايتها و تنظيفها وحلبها، مقابل دراهم معدودة لتعيل أسرتَها الفقيرة… 

     لقد كان يومها صعبًا مثل كلّ الأيّام التي تعيشها بعد الترمّل.. مع الفجر تنطلق لبيت مدير المدرسة لتطعم البقرة و تنظّف الحظيرة و تنقل الرّوث بالقفّة إلى المزبلة، و مع انتهائها يكون قد حان موعد الحليب، فتقوم بتسخين القليل من الماء لتغسل ضرع البقرة و تقرفص لتبدأ باستخلاص اللّبن من الضّرع بعد أن تدهن يديها بالفازلين لتسهيل العمل و كي يبقى الضرعُ طريّا، ولطريقتها بالحلب طقس يشبه تسريح شعر ابنتها الكبرى ذات الخصلات الذهبيّة المقطوفة من شمس الضّحى، وفي ظل انهماكها بالحليب و كالعادة يأتي المدير ليطمئنّ على بقرته(أو هكذا يقول).

المدير بصوت ناعم:

“صباح الخير يا أمّ محمود، أقسم بالله أنك امرأة حديديّة، و إعالتك للأيتام ثوابها كبير عند الله”

الأرملة تضع ركبتيها على الأرض بدل القرفصاء؛ تحاشيا لنظراته المجهرية المربِكة ..

“صباح الخير.”

المدير:

“كيف حال البنات؟ و الأهمّ كيف هو محمود، و الله إني لأراه أبا الزّندين الصّغير، طبعا؛ شبل من أسد، سيعيد سيرة والده البطل.”

الأرملة باقتضاب:

“الجميع بخير، الحمد لله.”

هنا تأتي زوجة المدير، فيعدل وقفته و يعود صوته أجشا مثل باقي الرجال..!

زوجة المدير وبلهجة ممزوجة بالسخرية:

“كيف حال الجميع، لا يهنأ بالُ زوجي الحبيبِ إلّا بالاطمئنان على بقرته المدلّلة!!، و بالمناسبة هي ليست صفراء لتسرّ النّاظرين..!”

المدير:

“الله الله عليك يا فردوس(اسم زوجته)..، هنيئا لك هذه الروح المرحة.”

فردوس مع كثير من الغنج المصطنع:

“من يعاشرك؛ حتما سيصبح مرحا محبّا للحياة، أخشى على البقرة أن يجفّ حليبها من كثرة المزاح و الضّحك.”

المدير مع قهقهة زائفة:

“لا تخشي عليها، فهي بأياد أمينة.”

فردوس:

“تقصد مثل البترول في دولتنا..!”

المدير:

– اخفضي صوتك يا عمري، للأبقار أذان.”

فردوس:

– آذان و عينان جميلتان أيضا..!

و تغمز بعينها غمزة خفيفة لا يُخفى معناها.. هذا الحديث المتبادل بين المدير و زوجته لا يهمّ أمّ محمود لا من قريب ولا من بعيد.

تتابع عملها و كأنّهما غير موجودين، لقد اعتادت هذه الحوارية الصباحية بدلا من أغاني فيروز.

الأرملة:

– انتهيت من حلب البقرة، هل أوصله لكم للبيت أم تأخذانه معكما.

فردوس:

– لا داعي، أنا أدخله معي، فلقد مسحت البلاط و رششت المعطّر..!

الارملة :

– بالإذن، أنا ذاهبة و أعود قبل الظّهر لأطعم البقرة وجبة الغداء و أسقيها.

المدير بصوت أجش:

– قواك الله يا أمّ محمود.

و يلتفت إلى زوجته: “إنها امرأة حرة.”

تصكّ فردوس أسنانها و تفرج شفتيها و تتمتم:

– إنها تسلبك عقلك..!

المدير بصوت رخيم:

– لم أسمعك، ماذا قلت يا حبيبتي..؟

فردوس:

– أقول لو أنّي أكملت دراستي بعد البكالوريا لكنت الآن صيدلانيّة أو مهندسة، و لكنك ابن عمي، وزواجي بك أهم من الدراسة بكثير..!

     أنهت الأرملة استحمامها، و كأنّ كل قطرة ماء تغسل روحها قبل جسدها من أدران الحاجة، و بعد أن تلبس ثيابها، تبدأ بتسريح شعرها الأسود الطّويل المنسدل على جسدها كوشاح من حرير الهند.

و بعدها تندسّ بالفراش جانب بطلها المنتظر، تنظر إليه و هو نائم كالملائكة، تهمس له:

“متى ستكبر ياصغيري ؟، أريدك شابا قويا مفتول الزندين كأبيك، ستعوّضني كل هذا التّعب و هذا الحرمان، و سأزوّجك بفتاة طيّبة الأصل و جميلة، و ستنجب لي الأحفاد الذّكور، خمسة أو ثمانية أو عشرة، و سأربّيهم حتّى يصبحوا شبابا و أزوّجهم، و ينجبوا … اسمع يا محمود؛

طفلك الأول سنلقّبه بأبي الزّندين كجدّه و باقي الأولاد سأترك لك حريّة تسميتهم..!”

و تبقى تناجي صغيرها تارة و ذكرى زوجها تارة حتى يغالبها النّوم و لتبدأ مع الصباح نفس الأحداث..!!، فهنا، لا جديد (أو هكذا تعتقد).

     تتذكّر البومة أنه حان موعدُ الاطمئنان على التّلميذ النجيب، و بالرّغم أن طقوس الأرملة لا تتغيّر كلّ مساء، و لكن البومة تحس بعدّة قواسم مشتركة بينهما، و لا تتركها حتى تطمئنّ أنّها نامت و هدأت.

تطير باتّجاه الزيتونة المطلة على نافذة فارس التّلميذ النّجيب، هكذا تسمّيه..

دار أهل فارس تسمّى مجازا منزلا، هو عبارة عن غرفة واحدة مسقوفة بالخشب و القصب، و تجتمع تحت سقفها عائلة فارس المكوّنة من الأب و الأمّ و أربعة أطفال ذكور، بالإضافة لعدّة الطّبخ و الاستحمام.

الكلّ نائم ما عدا فارس، يتدرّب على الإملاء و الّتي اعتاد أن يأخذ بها العلامة الكاملة. ضوء المصباح الكهربائيّ المتعلّق بسلك يتدلّى من خشبة السّقف و تعلوه نقاط سوداء، تكاد تغطّيه في بعض الأماكن فتحجب بعض النور، هذا النّقاط المتكونة من فضلات الذّباب الّذي يجتمع عليه بالنّهار و يبيت عليه أيضا، برغم توهّج الضّوء فإنّه بصعوبة بالغة يشقّ ظلام الغرفة الممتلئة بشباك العناكب.

تخاطبه أمه بشدة:” ألم تنتهِ بعد .!؟ نريد أن ننام و ضوء المصباح يجلبُ المزيد من الحشرات.”

فارس:

– دقائق فقط يا أمي، أنا على وشك الانتهاء.

الأم بسخرية:

– و ماذا ستصبح!؟، طبيبا لا قدر الله.

يستيقظ الأب و بعصبيّة يجيب الأم:” نعم سيصبح طبيبا، هو مجتهد و مثابر، و لو احتاج الأمر سأبيع ثيابي ليكمل تعليمه.”

الأم:

– و هل ثيابك تساوي شيئا..؟!، نم يا رجل، وخذه معك غدا ليساعدك في العمل، سيساعدنا عمله في إطعام هذه الأفواه الفاغرة.

الأب:

– إطعامهم ليس من شأنك، ولم تبيتوا يوما من غير عشاء.

الأمّ: 

– و هل تسمّي حبيبات العدس المطهوّة بقدر من الماء وبدون زيت أو سمن؛ طعاما..!؟، أو لعلّك تقصد الخبز اليابس الّذي نضيفه للحساء حتى يقيتنا نوعا ما؛ طعاما..!، اتق الله يا رجل..!

الأب:

– اتّقي الله و استغفري ربّك و احمديه.. ، أو ربّما مجرّد نومك و عدم نطقك بهذا الكلام بحدّ ذاته عبادة..! نامي ولا تسمعيني صوتك.

فارس:

– لقد انتهيت يا أبي، سأطفئ الضّوء لننام جميعا.

الأب:

– لا تشغل نفسك إلّا بدراستك، ولا تلتفت لكلام أحد، عندما تنهي دراستك و تتخرّج و تعمل وتسكن بيتا حقيقيّا؛ ستعرف معنى كلامي.

فارس يومئ برأسه بالإيجاب…

الأب: ” وفقك الله يا بني.”

     اطمأنّتِ البومة على فارس التّلميذ النّجيب، و لسان حالها يقول:”

ربما أنا أيضا أكحّل عيني برؤيتك طبيبا أو مهندسا.”

و انطلقت لتكمل السّهرة على شجرة الحور بالقرب من مضافة المختار، و لتشاهد المشاجرات و المصالحات النّاتجة عن اللّعب بالورق، فالسّهرة الحقيقيّة بدأت هناك و ربّما تمتدّ حتّى آذان الفجر؛ مثل معظم الليالي…

     و في طريقها رأت شبحا من بعيد يتسلّل بين الأشجار ويتابع طريقه بحذر شديد و بخطوات هادئة؛ حتى لا يصدر حذاؤه أيّ صوت محتمل..

تحطّ البومة على شجرة النّارنج المطلّة على دار الشّرطي أبي عزّام، مؤجّلة ذهابها لمضافة المختار؛ فالحدث هنا أهمّ و لا يحدث إلا كلّ عدّة أيّام.

اقترب الشّبح من منزل الشّرطي الفاخر، البومة تعرفه مسبقا، و تعرف ما يريد؛ تهزّ برأسها و تطبق جفنيها وتفتحهما بسرعة البرق لعشرات المرات و كأنّها تقول:” لن تترك هذه العادة يا يوسف؛ حتّى تنكشف و ينفضح أمرك.”

     التقط يوسف من على الأرض ثلاث حصيّات ورماها على نافذة غرفة النّوم. و كالعادة انطفأ المصباح أمام باب الدّار، و فتح الباب بشكل موارب يكفي لإدخاله دون انكشاف هوية فاتح الباب من الدّاخل.

البومة لا يهمّها أن تشاهد ما الّذي يحدث داخل غرفة النّوم، فهي تعرف تماما ما الّذي سيحدث، و شاهدته مرارا و تكرارا.

زوجة شابّة متزوّجة من شرطيّ يناطح الخمسين، تزوّجها بعد الطّفرة المالية الّتي حلّت به بعد خدمته على نقطة حدوديّة؛ ليغيّر بعدها كلّ شيء؛ منزله وزوجته و محلّ إقامته.

بالرّغم من أنّ البومة منذ سنوات و هي تحذّره بنعيبها المتواصل من لحظة دخوله حتّى خروجه، فلم يخطر بذهنه أبدا هذا الخاطر.

فجأة و مخالفة لكلّ حسابات البومة، تسمع خطوات متسارعة تأتي من بعيد و تقترب رويدا رويدا، من هذا الشّبح القادم في الظّلام..!!؟، هل يعقل أنه الشرطي أبو عزّام!!؟، ربّما، و لكن ما الّذي أتى به الآن، ليست عادته.. !

     حلّقت البومة لتستطلع القصّة، نعم! إنّه الشّرطيّ يمشي بطريقة غريبة و يمسك بطنه و كأنّه يعاني من المغص أو التسمّم، يقفز خلف رجمٍ من الحجارة، ويتأوّه و هو يقضي حاجته كأنّه يرزح تحت حمل ثقيل.

تنتبه البومة لحجم المصيبة الّتي ستحدث، و لكن ماذا ستفعل..!!؟، ترفرف بجناحيها مصدرة صوتا قويا وتنعب بشكل متقطّع و قويّ، و لكنّ ما الفائدة..!!، العاشقون لا يفهمون لغة الحكمة، ولا فسحة لديهم للتشاؤم من نعيق البوم .. يقترب الشّرطيّ من منزله بعدما تخلّص من حمله، وضع المفتاح بالباب بهدوء و فتحه دون أن يصدر صوتا كعادته المتّبعة منذ مدّة طويلة، كي لا يزعج زوجته الشّابة الجميلة من جهة، و كي لا تطالبه بمستحقّاتها الزوجيّة المتراكمة.

جنّ جنون البومة و بدأت بالطّيران بشكل حلقات لا تنتهي؛ جلبة قويّة داخل المنزل و صوت تلقيم مسدّس رافق صرخة مدوّية من الشّرطيّ الّذي انكشف بصره فجأة على مشهد زلزل كيانه و أعاده بجزء من الثّانية لكلّ القذارات الّتي كان يفعلها بالنّاس و بعائلته و زوجته الأولى، و مع هول المفاجأة تسمع البومة صوتا مدويّا قويّا لم تسمع مثله من قبل، هل يعقل أنّها صوت طلقة من مسدّس الشّرطيّ؟

لا.. لا..! الصّوت أقوى بمئات المرّات، و رافق الدّويّ صوتُ هدير مخيف، نظرت البومة باتّجاه السدّ لترى وحشا أسودَ عملاقا آتٍ باتجاه القرية؛ “لقد انهار السّدّ.”

حلّقت البومة فوق السّيل الجارف و هي تشاهده كيف يقتلع الأشجار الحراجيّة المعمّرة، ها هو يقتلع دار المختار من جذورها و يبتلعها لتختفي بين فكّيه كحبّة سكّر في فم طفل يلهو.

     و يتابع السّيل هجومه الصّاعق، منزل الشّرطيّ بكلّ ما يحويه من خطيئة، و مدير المدرسة و أحلام الأرملة ومستقبل فارس التّلميذ النّجيب؛ لقد ابتلع القرية بالكاملة ليزرعها في بطن الوادي و يغطّيها بعشرات الأمتار من الطّمي.

     أشرقت شمس الصّباح خجولة من بين الغيوم الدّاكنة، و مازالت البومة تطير فوق القرية و الوادي على غير هدى. انتهت المياه المحتقنة من المسير، كانت حبيسةً لسنة أو يزيد، و الحاجز الذي كان يحجبها نخره الفساد.

     مع ظهور النّهار تبيّنت البومة حجم الكارثة، لم يعد هناك وجود للقرية و لا للبشر و ليس هناك من ناجين، و الطّين المتراكم بالوادي يلزمه شهور عديدة لإزالته، والبومة تعرف أنّ الحكومة ستكتفي بوضع باقة من الزّهور على أطلال القرية و ربما يوجّهون المساجد ليصلّوا صلاة الغائب على أرواح الضّحايا.

     انطلقت البومة تبحث عن قرية و أحداث جديدة، ولكن هذه المرة بعيدا عن الجبال و الوديان و السّدود و أخطارها.

وصلت البومة ليلا لقرية في أحد السّهول الجميلة، قرّرت النّوم على شجرة زيتون كبيرة و كما يقال( الصباح رباح).

في الصّباح حلّقت فوق القرية، معظم بيوتها جميلة ومبنيّة من الإسمنت المسلّح، هنا رجل يقف على زاوية منزله يمسّد شاربيه، و هناك فتاة تكنس فناء الدّار، وبالجوار عجوز يتحلّق حولها أحفادها الصغار..، وهناك.. ماذا هناك، ماذا يكون يا ترى!!؟.

انطلقت البومة تستطلعه،؛ خزّانات معدنيّة عملاقة اسطوانيّة الشّكل، و حضائر ضخمة مسقوفة بالصّفيح

اللّامع.

خبرة البومة كبيرة في معرفة الأشياء، فلقد اكتسبتها من خلال تجوالها بين المدن و الأرياف؛ نعم لقد عرفته: إنّه معمل للسّماد الآزوتيّ، و يتوسّط المعمل خزّانٌ اسطوانيّ الشّكل عملاق و لكنّه يقف بشكل عموديّ، ومرسوم عليه جمجمة مع عظمتين متقاطعتين باللّون الأسود، و مكتوب على جانبه باللون الأحمر و بلغة أجنبيّة يوريا(UREA)، و على الجانب الآخر بخطّ كبير “قابل للانفجار”.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s