رهام فواز: انعتاقٌ من الحياة

انعتاقٌ من الحياة



جلس أمام مكتبه الذي قبع في زاويته فانوس مطأطئ الرأس، يبدأ بخلع روحه التي ناءت بحمل ثماره، كفّاه لا تساعدانه ويرتمي العجز  مُثقلاً ذراعيه، يحاول أن يرفرف بجناحيه علّه يستطيع مقاومة جيوش الكآبة التي بدأت بنهش رفات قلبه يتأوه من شدة المعاناة ويطبق جفنيه لتسقط دمعةٌ حارة تحرق أوراقه وقلبه، تسرقه غيبوبة الصرع من المقاومة حتى من النجاة.

كانت الدروب جميلة بين البساتين يعرج على شجرة الصفصاف ويشتّم روائح الياسمين، يتأكد من قلبه المرسوم عليها ويتنهد شوق الحنين ويتابع مطاردة أحلامه بخطاً سريعةً.

تتشابك خيوط الذاكرة وكأنها نسيج صوف معقد يذكر حينها كيف كان شاباً رياضياً، تنحني المدرجات لموهبته وتصفق الأيادي لبطولته، تلك الكرة التي يراوغ بها حتى النصر، الكل يهتف باسمه يحملونه على الأكتاف يتزحلق من كتف إلى كتف، وكأنه ملك بنى بيته كقصر منيف على نهر وجواري كاعبات وغلمانٌ يتهافتون لخدمته، وكانت هي من وسط الزحام حبيبته تحاصره خلف قضبان أهدابها أسيراً ضعيفاً.

يملؤه الدوار ويشعر بتعب شديد وكأنه تقسم إلى اثنين وتجزأ إلى وحدات وكل جهة تهتز بتشنج، هكذا كان حاله عندما تراوده صورتها الفتّانة وعطرها المسكر الذي ما يزال قابعاً كمدينة عتيقة في داخله،

تسكب العين مجدداً سيلاً طمّ الجفون, ويذكر أول عناق لهما، سألها حينها عن سبب اندفاعها لترتمي بأحضانه؟

ضحكت بصخب وقالت: إنها تعانق ساحراً سرقها من بين القصور إلى الطبيعة  والأرواح الساحرة. 

فبدأ بالتهام عينيها بشراهةٍ كما التفاحة ويسطو بشراهةٍ على مساحاتها الدافئة, يعاقر الحب بأبهى طقوس له يمتلك الدنيا والبشر حتى الشجر والحجر عندما يضيء ثغرها بابتسامة تجعله يتجمد كصخرة جليدية لا تنصهر إلا بين ذراعيها رافعاً رايات الاستسلام.

تجحظ عيناه التي أثقلتهما الدموع ويصرخ صوتاً غير مسموع يخترق الكتب ورسائل الغرام، تمنى أن يقطع كل الوشائح بين القلب والدم أن يعلو بنفسه من الغوغاء من الذكريات، يريد الهرب يُخيل إليه غابة .. تنفرج أمامه المساحات يسارع بالركض، يركض ويركض دون تعب حتى الوصول إلى اللامبالاة إلى عالم بعيدٍ جداً عن أنفاس البشر، يلهث بمكانه وتلفح خديه نسائم باردة من نافذته المفتوحة على العدم استطاع ضوء القمر أن يتسلل بخفة منها، يتحسس جسده المثقل ويمرر يده على قدميه العاجزتين يضرب بكفيه كرسيه المتحرك، يحلم أن يفتت قدميه إلى ذرات تراب، تحملها الرياح وتجعله عاجزاً من جديد، يقصف رأسه وابلاً من صواريخ الذكريات التي لا يودّ استحضارها، يرفضها بعنف لكنّها تلتف حول عنقه حد الاختناق.

كان لديه بطولة كرة القدم وكان جسده الطويل الممشوق يتمايل بلباقة وخفة كالأسد يزأر لا يهاب شيئاً، النصر حليفه دائماً والخصم يتوقد قهراً وغيظاً وعند كل تسديدة هدف ينظر إلى زوجته  يستمد من عينيها المتوهجتين بالشغف المزيد من القوة ويلوّح لها بيده كالنسيم الذي لاح عبثاً بأشجار الحور الراجف.

وسط ذاك الهتاف المهيب والتشجيع وفي لحظة لم تك بالحسبان أتت الفاجعة مباغتةً نشوة الانتصار لترمي بالجسد الضخم والعضلات المفتولة صريعة على أرض الملعب.

يستعيد وعيه بالمشفى ينظر حائراً، يتساءل ما الذي جرى؟ ليرى جسده  القوي مرتمياً على كرسي متحرك لعين، يفتقد محبوبته يناديها، لا أحدَ يجيب تقع نظراته على الطاولة المجاورة للكرسي، وردةٌ حمراءُ  و ورقة ٌمبللة كانت قد خُطت بيدها: ( سامحني، لا تتحمل عيناي رؤيتك وأنت مقعد )

يشتاط غضباً يبعثر أقلامه ويرمي بفانوسه ليكسر رقبته ويحرره من ضوئه الخافت، يحاول أن يتخلص من فظاعة ذكرياته تحت الأريكة إلا أنها أكبر من الأريكة، يحاول أن يدفن ذكرى حبيبته بين الكتب إلا أن الكتب قد امتلأت  بها، يحاول أن يرمي جسده من نافذته فلم يستطع ليبقى جثة هامدة مرمية على كرسي العجزة.



*اللوحة المرفقة للفنان السوري نهاد ويشو

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s