رهاب الأطياز

كتب حسام عتال: رهاب الأطياز

هناك لغط بشأن كارتون علي فرزات الأخير الذي صور فيه الائتلاف المعارض مشبها إياه بطيز إحدى عضواته. لسببه وُصِمَ فرزات بالسوقية والدناءة، ومايسمى مؤخراً بالذكورية. زاد من اللغط هي بوستات الأخذ والرد بين فرزات والمعترضين على الكارتون، وما رافق ذلك من بذاءات إضافية، ومن تشبث فرزات في موقفه ورفعه لمستوى لغته الرزيلة باضطراد.
هذا أثار جدلاً ليس فقط بقيمة ونوعية الكارتون الفنية والأخلاقية، بل أيضاً بمدى الحرية التعبيرية التي يتمتع بها الفنان ومدى الحصانة التي يجب إعطاؤها للشخصيات العاملة بالشأن العام.

“تضرب شو غليظ”. كان أسوأ مايمكن أن يقال عند الغضب في البيت الذي ربيت أنا فيه، لذلك صعقت بشيوع المسبات بين الناس العاديين في أمريكا بعد انتقالي اليها. سواء كنت أقلّب الهمبرغر في مطعم وينديز أو أسجل أعراض الفئران الذين كنت قد حقنتهم بالدواء التجريبي الاسبوع السابق في مخبر الأبحاث، كان الناس المحيطين بي يلفظون كلمات ال fuck و shit و damn بحرية ولامبالاة. وحتى عندما سجلّت في إحدى دورات تعليم اللغة القصصية في الجامعة، أتت استاذتنا بأول وظيفة طالبة منا أن نكتب قصة من ٣٠٠ كلمة تحوي المفردات التالية: family, lottery, Jesus, dinner, fuck, hell، death . لم أكن حينها قد أدركت أن عناصر القصة الأساس العابرة للثقافات هي: العائلة، المال، الدين، والجنس. ولم أدرك أن تلك الكلمات النابية مقبولة في الأدب الحديث. مع زيادة قرائتي للقصص والروايات باللغة الانكليزية (بدلاً عن ترجماتها العربية التي كانت تستبدل الألفاظ النابية بمفردات لينة) أتضح لي مدى شيوع تلك الكلمات، ليس فقط في كل عمل أدبي بل أحياناً في كل مقطع من كل عمل أدبي.
هناك دراسات إجتماعية ونفسية عن اللغة النابية، مفرداتها، مصطلحاتها، استخداماتها المختلفة، ودورها العام في “ثقافة” المجتمع. من أشهر الكتّاب الباحثين في هذا الشأن هو ستيڤن پنكر، المختص اللغوي والباحث الاجتماعي من جامعة هارڤارد. صنف نابي الكلمات إلى خمس أنواع: وصفية، اصطلاحية، مسيئة/جارحة، توكيدية/جازمة، وملينة/مسهلة. وفي إحدى البحوث وجد أن استخدام تلك الألفاظ تدل على الذكاء وعلى الإخلاص فيمن يستخدمونها مقارنة بمن يترفعون عنها. ولكن الأهم من ذلك هو استنتاج پنكر أن الناس عندما تسب تستخدم ماهو غالٍ وقيّم في نظر وعرف المجتمع المحيط، كموضوع للتجريح والإهانة.
لذلك، و منذ حين، أصبحت إحدى الصفات التي أحب التعرف إليها خلال زياراتي للبلاد المختلفة هي سؤالي عن لغة و طريقة المسبات في المكان المعين. قبل أن يسرح خيالكم بعيداً أحب التوكيد (والجزم) أني لأبدأ بالسؤال عن هذا الأمر مباشرة بدون مقدمة وقبل أن أمهد له بالشكل الملائم وانتظار الظرف المناسب 😊.
تبقى الكلمات المتعلقة بالجنس هي الأكثر استخداماً للسب حول العالم. ولكن ذلك ليس شاملاً أو كلياً. فإذا قلت لشخص من فلندا “ك س أمك” سيجاوب بسؤال مقابل “ماذا عنه؟”. ذلك أن ذكر فرج المرأة لدى الفلندي المنتمي لمجتمع متحرر جنسياً لايعني الكثير فهو أمر عادي بالنسبة له. وكون العائلة الفنلندية نووية بأضيق الحدود (مقابل العائلة الممتدة) يصبح دور الأم، خاصة بالنسبة للبالغين، أقل أهمية. فالشخص البالغ ليس متعلقاً بأمه بشكل حميم أو عميق العاطفة. إن جاوبت شارحا لذلك الفلندي “سأن يك ك س أمك” عندها سيظن أن لديك مشكلة مع أمه وليس معه شخصياً، سيرفع كتفيه قائلاً “حظاً سعيداً”.
بالمقابل، في بلاد المعتمدة على العائلات الممتدة اجتماعياً واقتصادياً تأخذ المسبات منحى عائلياً، وتعمق بدرجة عمق العلاقات العائلية. ففي تركيا تسب العائلة ويضاف الى ذلك النسبة لأن لها اساس اعتباري هام أيضاً. معظم البلاد العربية تنتمي جزئياً لهذا الصنف. نوع مشابه هو مانراه في الشرق الأقصى كاليابان والصين وكوريا حيث الأجداد يرتفعون لدرجة التقديس، عندئذ يجب سب “عائلتك حتى الجد الثامن عشر”. لاأدري لم يتوقفون عند الثامن عشر، ولكن الأمر كذلك فيبدو أن الفكرة تصل بوضوح عن ذلك الحد.
سب المعتقدات والربوبية تتلو الجنس والتشهير بالعائلة في مجتمعات أخرى، وهناك بعض التنوع. ففي الدول الاسكندنافية، حيث تم خلط أفكار الخرافات الغوثية بافكار الجنة والنار (من قبل المبشرين المسيحيين)، تطغى مسبات الجحيم والشياطين والهول. بالمقابل تركز الشعوب الكاثوليكية على مهاجمة طقوس العبادة وتلويثها، لأهميتها ومركزيتها في فكر الكنيسة. فهم يحلوا لهم سب القربان الكنسي، ويسترسلون بذكر حامله وأوعيته وخزينته وكل مايتعلق به. سب الدين نفسه أو الإله مباشرة لم أجده (كخبرة شخصية) سوى في بلاد الشام. فمسبات (ربك وإلهك ودينك) تبدو محصورة في هذه البقعة من الأرض لسبب ما (هل لأنها مهد الديانات كما يدّعى؟). لو أننا هنا قبلنا هنا بتفسير ستيڤن پنكر يمكن لنا الاستنتاج أنه، ربما، سبب ذلك هو قوة الإيمان أو على الأقل عمق تأثيره في هذا المجتمع. فكما يقول پنكر “يجب أن تصيب المسبة ماهو غال وثمين ومحبوب لكي يكون لها فعالية الجرح والإهانة”.

من هنا نعود لكارتون فرزات لنرى عمق مأصاب في وصفه، ولنفهم سبب رد الفعل الشامل والعنيف عليه. فهو، بذكاء برأيي، استخدم رهاب مجتمعنا تجاه الجنس (وخاصة الخلفي منه) وتجاه المرأة (بنمطيتها المُقدِّسة للأخت والزوجة والأم) بتوجيه ضربة قاسية للإتلاف المعارض. وإذا اعتبرنا التعليقات التي تلت وأجوبة فرزات عليها امتداداً الكارتون فهو قد زاد من فداحة ماقدمه بتلك الأجوبة، وانتفع برد الفعل لتقوية الدعاية لكارتونه وضمان انتشاره الواسع. هذا، طبعاً، يذكرنا بسئ الذكر طرمپ الذي فاجأ المجتمع الاميركي (المحافظ في عمومه) بوقاحته وبتعديه الساخر العلني والبذئ على النساء والمهاجرين والمعاقين (ذوي الهمة) وغيرهم من خصومه. ثم بعبقرية استخدامه وسائل الاعلام، نفسها التي تنتقده بشدة، كوسيلة للدعاية المجانية العريضة.
جزء لايتجزأ من قوة فن الكارتون السياسي هو في قدرته على التهكم الجارح وأحياناً البذئ، هذا جزء تضمنه (ولاتتطلبه بالضرورة) قيم المجتمع الغربي اللبرالي الذي نقيم فيه. والتعرض للشخصيات العامة مشروع وعلى أي عامل بالحقل العام أن يتوقعه، وإلا فليعتزل. فرزات يعرف ذلك جيداً لتمرسه بهذا العمل زمناً طويلاً، قد لايعجبنا ماقدمه ويخدش حيائنا، لكنه نجح في ايصال فكرته بحدة كرتونه وقوة تصويره، والأهم فهمه لنقاط ضعف مجتمعنا وخصوصياته، وعزز كل ذلك باستخدم خصومه لصالحه. أنا، مثلاً، لاأتابعه ولم أكن لاأعرف عن كارتونه إلا من خلال أصدقائي الذين انتقدوه. هو بذلك كطرمپ قد لانحبه ولانتفق ولكننا لانستطيع التمنع عن الكلام عنه، وعن المساهمة في نشر مايقدمه.

(الصورة من رحلة في الاسبوع الماضي لكولومبيا. المؤخرة في الصورة لم تكن مقصودة، أو ربما كانت)

*منقول من صفحة الكاتب في فيسبوك

Houssam Attal

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s