لماذا يختار الجنيّ الكافر ضحاياه من النساء؟
الجنّي في ريف حلب يختار ضحاياه بعناية، وعندما يريد أن يتلبس أحداً فإنه لا يرمي نفسه داخل جسده اعتباطاً ودون دراية واطلاع، إذ يجلس الجنيّ مع نفسه طويلاً ويفكر، وقد يستشير أصدقاءه الجن الآخرين، لينصحوه بنوعية الضحية المناسبة.
كنت قد فكرت كثيراً بنذالة هذا الجني، إذ أنه غالبا ما يختار الأسر التي يغطي الجهل حياتها، ويسود الظلم تفاصيل معيشتها، والقهر أحد أهم مكتسبات أفرادها، بل إنه غالباً ما يختار هذا الجنيّ النسونجي الضحية الأنثى ويترك كل الذكور أحراراً خارج سيطرته.
في بيت لا يمنح المرأة قيمة أو وزناً، ولا يعتبر الأنثى بشراً نشأت الضحية موضوع حديثنا، كان الأب متسلطاً ظالماً لا يمر يوم دون أن يستخدم قوته الجسدية في الانتصار على زوجته وبناته، لدرجة أن مغادرته البيت لساعات كانت بمثابة مناسبة سعيدة وفسحة وترفيه للفتيات، أما الأخوة الذكور فكانوا على نهج أبيهم، إذ كان كل واحد منهم يضرب أخواته لأدنى سبب يتعلق بتأدية خدماته، فهو الذكر الذي يأمر وينهى وهن النساء اللواتي تنفذن وتطعن، بل كان أحد الأخوة الذكور محبوباً لدى أخواته لسبب لا يصدق!! هو بالفعل محبوب والسبب أنه لا يضربهن كثيراً ولا يقوم بذلك إلا عندما يفقد أعصابه، يعني حنون ما شاء الله.
وما زاد الطين بلة لدى الفتاة موضوع حديثنا، تعرضها لتشوهات جسدية نتيجة حادث لن آتي على تفاصيله هنا، فكانت (سمر) ضحية معاناتها بعد الحادث وضحية والدها وأخوتها قبله وبعده، ونتيجة لكل تلك الضغوطات والتي رافقها ضغط العمل المنزلي، اذ تعمل كل الفتيات عملاً منزلياً يعتبر المصدر الأكبر لدخل العائلة، أصيبت الفتاة باضطراب نفسي، هذا الاضطراب يتجلى على شكل بكاء وصراخ وإغماء في بعض الأحيان.
في البدايات كان يعالج بكاؤها وصراخها بالضرب من قبل الوالد أو أحد الأخوة، حتى تصمت تعباً أو فقداً للوعي، ثم تعود لطبيعتها بعد ساعة تقريباً، وتستمر بأعمال المنزل والأعمال التي تجلب المال للعائلة، لكن حالتها النفسية هذه كانت تزداد سوءاً كلما ازدادت الضغوطات عليها وعلى أخواتها، معظم الضغوطات كانت تتعلق بضرورة الإسراع بإنجاز العمل المطلوب وذلك لتحقيق ربح مادي أكبر، وإلا فالضرب هو الأسلوب المعتمد لدى كل تقصير، مضاف إليه الحرمان من ممارسة أي نشاط طبيعي لفتاة في مقتبل العمر، فلا صديقات ولا زيارات ولا حتى ضمن أيام الأعياد إذ غالباً لا يمكن أن تخرج الفتيات من المنزل نهائياً، ويؤكد ذكور العائلة أن (خير الصهور القبور) أي خير مكان لأختك أو ابنتك هو القبر.
نعود للجنيّ النسونجي، اذ أن هذا الوضيع اختار سمر تلك الفتاة المسكينة ليتلبسها، أو يبدو أن ذكور العائلة اختاروا هذا السيناريو لتفسير حالتها النفسية، وبالفعل لم يتم عرض الفتاة على أي طبيب نفسي أو غير نفسي، بل انعقد مجلس ذكور العائلة ليتخذ قراراته حول القضية، وليصدر المجلس التشخيص والعلاج، إذ لا بد أن جنياً يقيم داخل سمر وإلا ما هذا الصراخ الغريب الذي يصدر عنها؟ وما من حل سوى أخذها إلى الشيخ (رجل الدين).
وكما تعرفون فإن رجل دين الحي لا يطرب، بل يحتاج المرء إلى رجل دين شغل (بلاد برّا)، لذا بدأ رجال العائلة بالبحث عن الشيخ الذي يمتلك القدرة على إخراج الجن من جسد الفتاة، وبالفعل وجدوا أحد المشايخ المشهورين، ورغم أنه طلب مبلغاً كبيرا حينها (في التسعينيات) وهو خمسة آلاف ليرة سورية، إلا أنهم وافقوا، إياك عزيزي القارئ أن تظن أن موافقتهم كان دافعها حبهم لسمر، بل لأنها عندما تصرخ يسمع الجيران صوتها، يا رجل فضحتهم في الحارة!.
بحسب روايتهم هم: فقد بدأ الشيخ بتلاوة القرآن واضعاً يده على رأسها آمراً الجني بالخروج من جسدها، ثم حاول بطرق عدة لا تتجاوز الكلام والدعاء والحوار مع الجني، الذي رفض طبعا ، ولو وافق الجني على الخروج بسرعة فما مبرر الخمسة آلاف ليرة (خمسمية وكتير عليه)، وبعد الفشل كان لا بد للشيخ من اتباع طرق أقسى فهذا الجني لا يفهم إلا بالضرب ويبدو أنه جني كافر، ضربها الشيخ ضرباً مبرّحاً حتى هدأت وتوقفت عن الصراخ (يبدو أغمي عليها) وأكد لهم أن الجني قد خرج من جسدها، وعادوا إلى البيت مسرورين بجاهزية عاملتهم للعمل والإنتاج.
بعد فترة عادت الفتاة لنفس الحالة من الانهيار والصراخ، ليكتشف ذكور العائلة (أعرف عزيزي القارئ أنك تظن باكتشافهم خيراً وانهم قرروا أخذها لطبيب نفسي) أن الشيخ غشاش ولم يخرج الجني منها فبدأوا بالبحث عن شيخ آخر، لسنوات وأنا أسمع قصص المشايخ الذين يحاولون مع هذا الجني، إلى أن انقطعت الأخبار عني ولم أعرف مصير الفتاة ولا مصير الجني.
أريد أن أذكّر بأنني لا أتحدث عن حالة عامة هنا، بل حالة أو حالات خاصة لكنها منتشرة في ريفنا الحلبي، ولا بد من أن يطرح المرء تساؤلاً حول الإجراءات المتخذة بحق المريض عندما يكون ذكراً!! غالباً لا أحد يذكر اعتداءات الجن عندما يصاب ابنه بمرض نفسي، بل معظم الناس كانوا يسارعون إلى الأطباء والمشافي للعلاج، أيضا لا يمكن اعتبار ذلك قاعدة، لكن ما يمكن اعتباره ملاحظة هامة، هو التأكيد على أن التعامل مع المرأة المريضة لم يكن قط مشابهاً للتعامل مع الرجل المريض، إذ أعرف عشرات الرجال الذين فكروا بالزواج بأخرى بعد اكتشافهم مرضاً مزمناً عانت منه زوجاتهم، بالمقابل أعرف عشرات النساء ممن ازددن إخلاصاً وحباً لأزواجهن بعد مرضهم، والأهم أن الجنيّ (الكافر) في منطقتي مازال يصول ويجول ويختار ضحاياه من النساء.
*محمد إقبال بلّو – من كتاب الاستعباد الخفي للمرأة السورية.. ريف حلب نموذجا. الصادر عن موقع زي بوست الاجتماعي الأدبي في عام 2022