د. حمزة رستناوي: عن عِدّة الرجل ومصدر القرآن

د. حمزة رستناوي: عن عِدّة الرجل ومصدر القرآن


أرسل لي أحد الأصدقاء الرسالة التالية (لماذا لم يلتزم الرسول عليه السلام بعدة صفيّة بنت حيي وتزوّجها في ذات ليلة مقتل زوجها، بل وبنى بها بالطريق، ماذا لو كانت صفية حامل؟؟؟ العدَّة لضمان براء الرحم نعم، ولكنها سجن انفرادي حرفي! وإن كانت لبراء الرحم فاليوم الطب يستطيع كشف الحمل بعد ساعات قليلة من حدوثه. أما عن الرجل فلا عدّة ولا حزن ولا هم يحزنون! عندما تتعمق بالقرآن تعتقد أن من كتب القرآن سواء كان خالق أو بشر  فصّل هذا الدين لخدمة الرجل وعلى مقاسه ومن أجله). انتهت الرسالة. 

تعقيبا على ذلك سأعرض للنقاط التالية:

أولا- الحادثة مروية في كتب السيرة النبوية، وهي من نتاج عصر التدوين المتأخر عن زمن النبوة بما يقارب القرنين وأكثر، والحادثة لم ترد في القرآن الكريم. لا يوجد قرائن تاريخية موثقة تؤكد حدوثها أو تنفيها! الحادثة لو افترضنا أنها حدثت تعرض لازدواجية معايير، فما ينطبق على صفية  بنت حيي يجب أن ينطبق على غيرها، وما ينطبق على النبي كبشري يجب أن ينطبق على غيره، واختصاص النبوة هو في التبليغ والقدوة الحسنة فقط وليس الاستثناء دونما ضرورة وسياق يبرر ذلك وبما يقدره عامة الناس عبر العصور. 

ثانيا- وردت العدة في القرآن بمعنى الانتظار (التربص) لا تتزوج رجلا غيره، ولم ترد بمعنى الحبس الانفرادي. ولكن عمليا في كثير من المجتمعات العربية الإسلامية تُمارس العدة سجن وإقامة جبرية للمرأة، وفي ذلك ظلم بيّن وهذا ما يجب نقاشه داخل وخارج الإطار الديني.

ثالثا- إنّ علّة براء الرحم تفسر تشريع العدة في العصور القديمة ولكن مع تقدم العلم  زال هذا السبب المُفسر. الحكم على مصالح العدة يتراوح بين مضى عصرها (كنصوص ما ملكت أيمانكم) وبين كونها معاصرة صالحة فالمرأة التي توفي زوجها إذا أرادت طوعا الالتزام  فهذا شأنها ويجب أن نحترم خيارها ولكن طريقة التنفيذ والشروط المتشددة المطبقة حاليا فيها ظلم وغلو كبير.

رابعا- كما هو سائد في مجتمعات سورية وعربية مسلمة، باسم (العِدّة الشّرعية) يتم  الحكم على المرأة التي توفي زوجها حديثا وعقابها بالإقامة الجبرية في المنزل (بشروط قريبة من السجن) لمدة بأربعة أشهر وعشرة أيام! أقولُ: وهذا من باب الغلو في الدين، ومن باب الثقافة الذكورية المهيمنة في مجتمعاتنا. مفهوم (العدة الشرعية) له وجهان:
1- من جهة ضمان أن تكون المرأة الشابة التي توفي زوجها غير حامل منه وخاصة في الأزمنة القديمة قبل تطور  الطب.
2-كنوع من الوفاء والاحترام لذكرى زوجها السابق بحيث لا تتزوج من رجل آخر ضمن هذه المدة ليس أكثر، ويمكنها أن تعيش حياتها بشكل طبيعي تخرج للتسوق وزيارة الأهل والتنزه فهي أكثر حاجة للخروج والترويح عن النفس من الآخرين. بالمناسبة هل يوجد عدّة شرعية للرجل الذي توفّيت زوجته من باب المُعاملة بالمثل؟ ومن باب الاحترام والوفاء لذكرى زوجته السابقة؟!

خامسا – مبدأ وحدة المعايير يُلزم الرجل والمرأة المتوفى شريكه كلاهما بالعدّة. لكن ضمن السياق التاريخي الاجتماعي في مجتمع معين حيث الرجل مسؤول عن العمل وجلب الرزق خارج المنزل سوف يكون من الصعوبة بمكان بقاؤه في المنزل والخلوة بنفسه، وهذا يختلف حسب أنماط العيش والعصر والمجتمعات وهذا ما يجعلنا أكثر تفهما للسياق القرآني الذي ورد فيه الحكم.

سادسا- مصدر القرآن والوحي هو نقاش مجاله علم العقائد واللاهوت الديني، ويعود للشخص نفسه الإيمان أو عدم الإيمان بالألوهة والنبوة والقرآن الكريم. ولكن لا يضرنا بشيء لو أن فلانا مؤمن على طريقة الإسلام أو المسيحية أو مؤمن بالألوهية فقط أو ملحد (من وجهة نظري لا يوجد إنسان غير مؤمن ولكن الناس تختلف فقط في أشكال الإيمان وطبيعته وصلاحياته وتوصيفاته) علميا في الواقع بغض النظر عن مصدر القرآن الكريم، النص القرآني هو نص مُهيمن في الثقافة العربية الإسلامية وتفسيره ومقاربته بمنظور متفهّم وضمن السياقات الاجتماعية التاريخية بما يخدم مصالح مجتمعات المسلمين والأوطان هو عمل نبيل ومهم ويستحق الجهد. يجب العمل على إعادة الثقة بين الإسلام والعصر.. بحيث تكون أولويات الحياة والعدل والحرية هي معايير صلاح المؤمنين وليس شيء آخر من قبيل الطقوس والعبادات التي ينبغي احترام خيارات الناس فيها، ولكن دونما إعطائها الأولوية كما هو شائع اليوم في الإسلام الطقوسي المتكلس المفاصل بفعل تقادم الزمن واستقالة العقل النقدي عن التفكّر في حال المجتمعات وأنماط تديّنها.  
                                                                        وفي سياق متصل أنصح بقراءة كتاب (تاريخ القرآن) لتيودور نولدكه الذي هو من أهم الدراسات الموضوعية  التي كتبت عن القرآن الكريم عبر العصور منذ زمن تدوينه وإلى الآن (من وجهة نظري).

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s