الرجل الجثة في حلب، والمرأة المريبة في عنتاب.. قصتان حقيقيتان
كنت في التاسعة عشر أو العشرين ربما، لا أذكر، لكنني كنت أرى في نفسي الشخص المثقف الواعي، فإلى جانب أنني طالب جامعي فأنا أيضاً صحفي .. حتى وإن كنت في بداية الطريق.
في تلك الليلة دخل أحد الاصدقاء إلى أوضة السهرة يلهث وهو يرتعد مصفر الوجه جامد القسمات:
– هناك جثة في أول الحارة.
صعقنا، ولا شك أن كل واحد منا فكر بينه وبين نفسه “جثة من يمكن أن تكون” ؟
تراكضنا نحو الجثة التي كانت ممدة بلا حراك على اسفلت الطريق وسط الظلام.
إنها جثة رجل، هذا واضح..اقتربت من وجهه لأتعرف إليه ولم أحتج الكثير لأكتشف أنه غريب، فهذه أول مرة أراه، لكنه حي إلا أن رائحة الخمر تفوح منه بقوة:
-هذا رجل سكران وليس من عندنا.
خاطبت الحشد الذي هاج وماج قليلاً ولا أذكر تفاصيل ما قاله كل فرد، لكنني طلبت منهم أن يجلبوا الماء ليُرش على وجهه فكان، وبعد أن أغرقنا وجه الرجل وجسده بالماء انتعش وبدأ يستعيد الوعي، ثم أصبح قادراً على الوقوف حتى وإن كان مترنحاً.
-“سكران مطفي العرص” .. قلت.
وكأنني بذلك فتحت طاقة من جهنم عليه..لا أنكر أنني قلت تلك العبارة باستسهال واستهزاء وتعال أيضاً، لكني لم أتوقع أن تكون بمثابة إذن ليهجم عليه أحد الرفاق ويضربه كفاً على الوجه بكل عنف..
صمت لا أدري لماذا، ويبدو أن صمتي، وأنا الأكبر بينهم أو على الأقل “الأفهم”، مثّل للحشد رخصة واستنساباً لفعل الضرب، فاندفاع بطل آخر ليناوله الكف الثاني الذي شعرت به يوقظني من ذهول الكف الأول.
صرخت: توقفوا ما هذا..حرام عليكم الرجل مو بوعيو.
لكنه سكران..مين قلو يشرب ليطفى..شربان سطل الكديش..الله لا يعطيه العافية ما يخاف الله..الخ من هذه العبارات التي ترددت كصدى قادم من تلافيف وعي ولا وعي كل منا، حيث يعتبر من يشرب كمن يرتكب اثماً بلا مغفرة ويمثل تحدياً لله ورسوله !
لكنني تحديت الحشد وملت بجسدي نحو الرجل الجثة فوضعت يده اليمنى حول رقبتي وأمسكت خصره باليسرى واتجهت به نحو الأوضة نترنح أنا وهو بينما بدأ يهذي بكلمات مفيدة جعلت الجموع توقف هذيانها التافه العبثي:
-ما خلولي ولا شي..سر..سر..سرقوني خيو. أق..أقسم باللللله..
صمتنا مبحلقين ببعضنا البعض:
-إنه يتكلم
قال أحدنا.
-عندو قصة..
أضاف آخر.
-قصة بتبكي العادة..
أردف ثالث..وهكذا حتى فات علينا الاستماع لهذيان الرجل الجثة الذي أجلسناه على الرصيف أمام الباب وقدمنا له فنجان قهوة جعله يستفرغ الكثير مما في أحشائه.
وبينما كان يستفرغ معدته ويستعيد وعيه كنت أشعر بخجل قاتل: كيف سمحت بأن يتعرض للضرب وأنا واقف أشاهد..!
لكنني لم أسأل أو أفهم وقتها مالذي يجعل أشخاصاً يضربون شخصاً آخر لا يعرفوه ويقابلوه للمرة الأولى، فقط لأنه غريب وسكران مثلاً !
بعد ثلاثة أيام كنت اشتري بعض الخضار من محل في سوق الحارة وصاحب المحل قريب لي، لكنني فجأة شاهدت الجثة تأتي من بعيد.
إنها جثة الرجل السكران بذاتها وخبزاتها..لكنها متأنقة هذه المرة بطقم وكرافة، وبيدها حقيبة متوسطة الحجم تمشي باتزان وعلى وجه صاحبها رزانة محت كل الملامح، تماماً كما كانت ملامحها ممحية يوم كان صااحبها غارقاً في السكر..
ظللت مشدوداً إلى ذلك الوجه الذي عبرني دون أن ينتبه إلى اهتمامي الشديد به، ثم شعرت بالخجل من جديد، وبلطمة على وجهي ذكرتني باللطمتين اللتين تلقاهما وجهه ذلك اليوم، وقبل أن يبتعد سألت صاحب المحل: أبو محمود هل تعرف هذا الرجل ؟
-أي رجل ؟
-هذا، هذا الذي يلبس طقم ويحمل حقيبة.
-ايييييه هادا موظف استأجر جديد عنا بالحارة وقصتو قصة المسكين.
-اش قصتو ؟
سألت بلهفة وخجل مضاعف من الذات، فأجاب (واسمحوا لي أن أختصر):
-هادا يا سيدي من بيت فلان (عائلة معروفة بحلب) شلحوه اخواته الورتة بعد ما ضحكوا عليه..
في السهرة أخبرت الرفاق بقصة الرجل، وبقدر ما كان تأثير التفاصيل قوياً على النفوس، بقدر ما كان أسى وأسف من وجّه للرجل الصفعتين ليلتها مضاعفاً.
كان أول درس لي في هذه الحياة عن فاعلية التنميط وتأثير الخطاب في تشكيل وعي الجمهور وتوجيه سلوكه، لدرجة يمكن أن يركل شابٌ امرأةً عجوز لا يعرفها فقط لأنها غريبة ويبدو شكلها مريب بالنسبة له وللحشد الذي يقف من حوله دون أن يتدخل لمنع البطل من تكرار الرفس..فهذه غريبة والغرباء سيئون، يخطفون أطفالنا ويسرقوننا..!
*المصدر: صفحة الكاتب في فيسبوك