لا أشرب القهوة إلا مع نشوة، وبحب الشاي من إيد بابا، كيف يحب المرء أباه كالمجانين، عاشت ماما في جسدي ومت أنا
يقولون لي كيف لا تحبين القهوة؟ ببساطة لا اشربها لأن بها تعقيد غريب وفلسفة تافهة وعمق مصطنع، لكنها صادقة في لونها ومرارتها.
لذا، اشربها مرة او مرتين كل عام مع نشوة صديقتي لانها تليق بجلستنا الحميمية الضاحكة الباكية، ولا اشربها ابدا بأي مكان ولا مع اي شخص أخر،
اشرب الشاي بكل أنواعه، كان ابي يعد كوب الشاي لي ويرفض تماما ان اعده لنفسي ،،كان يحب ان يعد لنا الطعام بنفسه ويصر ان يقدمه بطريقته لي انا بشكل خاص،،
كان نظيفا موسوسا يرفض ان يأكل من يد اي شخص الا ماما وجدتي واخواته البنات(عماتي). ويقول ان (الأكل ضمير) فالمراة ذات الصمير ستتحرى النظافة والاتقان.
حين يعرف ان امراة ما انجبت طفلا كان ابدا لا ياكل في نفس المنزل حتى لو كن قريباته،،
لا ادري ما حمله على ذلك منذ طفولته ولم أسأله ابدا،، وحين انجبت انا واختي كان لا يأكل الا معنا ليشجعنا على الاكل واذا رفضت كان احيانا يهددني (بضربي) وهو الذي لم يرفع يوما يده امامنا.
وكان إذا اعد لنفسه كوبا من الشاي يشرب منه رشفتين او ثلاث لأكمل انا كوبه،، وظللنا هكذا منذ كنت طفلة صغيرة لم اتعد الثامنة لا يكمل ابدا كوبه ويتركني لاكملها حتى رحل.!
كان يعد لي ساندويتش(فول) مميز،، لا بد ان يكون الخبز بلدي(مأمر) على النار واجعله يقسم الا يضع به السمن البلدي فيقسم، ثم يضع السمن البلدي دون ان اعرف (كما اعترف لي لاحقا) ويقوم بتتبيله بالفلفل والملح و(الدقة).
وكانت عمتي الكبرى ذات العيون الزرقاء والمحبة العميقة لبابا وماما وكل ما نتج عنهما،،كانت تصنعها من طحن اللوز و نواة المشمش ومعها بهار معين وسمسم،،،
كانت ماما تنهرني كثيرا لاني لا اكل غالبا الا الفول فكان يتم منعه في رمضان لأني لا اعادله بشيء مهما كان.
كانت ماما لا تحب الفول وتشعر ان به بعض (الشعبية) التي لا تستحق هذا العناء،
لكن بابا كان يتعاطف معي فيتركني اكله وهو يضحك
ويتفنن في صنعه لي،
كان بابا (حريقة سجاير) كما يقولون وقهوة بحكم عمله على ما اعتقد، حتى قام باجراء عملية قلب مفتوح وساعتها توقف تماما عن الاثنين وبكل سهولة،، كانت شخصيته القوية وكبرياؤه تجبره الا يكون تحت سطوة شيء حتى ما يحبه،،، طالما حان الفراق،،فليكن!! ولكن حين يتصل الامر بنا كان الامر مختلفا
كانت ماما تجبره حين كنت حاملا الا يشرب السجائر فكان يضطر الى شربها في الحمام الصغير الذي جعله خاصا به ليشرب به السجائر براحته كالمراهقين خوفا علي ثم على اولادي ،،
حتى توقف بعد عملية القلب تلك التي اصيب خلالها الطبيب الجراح بانهيار عصبي بسببي انا واختي واخي فقد كنا كالمجانين نطارده حتى في احلامه،، وكانت نصيحته لأخي ان نعالج من هذا الهوس بالأب،،
كانت ماما سعيدة بنا وبارتباطنا بهما، كانت تضحك وتقول لي انت تحبين اباك اكثر،، لكنها بالتاكيد تعرف الان اني احببتها حبا جعلني عاجزة تماما عن التعبير،، احببتها لدرجة انا نفسي لا استطيع تقييمها،، احببتها حتى صرت اشبهها تماما بعد رحيلها وكتت طيلة عمري اشبه ابي واحدى عماتي!!
احببتها حتى صارت تعيش داخل جسدي ولفتاتي ومرآتي ومت انا بدلا منها انا سعيدة انها الان تعرف فقد.كنت اقسم لها اني احبهما بنفس القدر فلا تصدقني وتضحك في سعادة،،،الان هي صدقتني وتتابعني انا واولادي وتوصي بي اخوتي،، وبابا،، ياتيني يحتضنني طويلا،، اتوسل له ان يعود فيرفض،،
الان اكل الفول قليلا بأي طريقة لأني صرت ارى به بعض (الشعبية) التي لا تستحق العناء ، ولأن بابا كان يصنع الفول بشكل كلاسيكي انيق وراقي جدا لا يستقيم مع الحياة بدونهما.
*دينا عاصم: إعلامية وشاعرة مصرية