مريض السكري ما بيسوا له الحكي الحلو
يعمل أبي الخمسيني موظفاً عاديا في قسم طوارئ الكهرباء، ويترأس ورشة لتصليح الأعطال، قوامها أربعة أو خمسة عاملين فقط، وسيارة نقل ورافعة خاصة بالشركة، يستيقظ باكراً منذ أكثر من ربع قرن، وينطلق في الثامنة تماما، كطالب في مدرسة.
لم أعهد له وجها غير ودود أو مسالم، حتى في غضبه، لدرجة أننا نخاف أمي أكثر ما كنا نهابه، وكانت كلما أغضبناها تهددنا به، ليكون عقابنا عودته منهكا من تسلق عمدان الكهرباء، تستقبله شكاوى أمي من على الباب، وقبل أن يضع لقمة في فمه حتى، فيستمع برغم تعبه، وبهدوء يخفف حنقنها بكلمة سأتصرف. و كان كل ما يجيده في التصرف هو تأنيبنا بحنان مطلق.
في مثل هذه الأيام من السنة، حيث تجتمع بقية العائلات معا إلى جانب المدفأة، يستعدون للأعياد وينتظرون سنة جديدة، كنا نادرا ما نرى أبي، تسرقه منا الأعطال التي تزيد وتيرتها، بفعل الأمطار والثلوج والشبكات المتهاوية، ليمضي أكثر أعياد رأس السنة على أعمدة الإنارة وأبراج النقل، تحت الثلج، ويعود إلينا في الفجر مرتجفا، مبتلا حتى أخمص قدميه.
لم أره يوماً متذمرا من طبيعة عمله القاسية، طالما أنه يدخل إلى جيبه آخر كل شهر ما يسد رمق عائلة من خمسة أفراد، ويقيها من العوز، إلا أنه منذ اصابته بالسكري قبل عدة سنوات، بات عاجزاً عن العمل الميداني، يقضي معظم وقته في مكتب الطوارئ يستقبل الاتصالات، وبأسلوبه المرح، يحتوي غضب المواطنين وشكواهم، يسجل أماكن الأعطال، التي تتناسب طردا مع واقع البلد المستنزف، ويحرك ورشته إليها. ولا يقرب النوم عينه إن لم تستطع ورشته تغطية كافة الأعطال في نفس المناوبة، فيسلم العمل المتراكم إلى الورشة التالية بعده، ويعود قلقاً إلى المنزل يظل يتصل برئيس الورشة المناوب وصاحب العطل، حتى يطمئن أنهم قد وصلوا وحلوا المشكلة.
السنة الماضية كاد قلبي أن يتوقف عن الخفقان رعبا، بعد أن القى بعض المحتجين على واقع الكهرباء السيء قنبلة في مقر الشركة، كان أبي هناك لتسجيل إجازة مرضية، وقد انفجر قاطع كهرباء في وجهه وهو يحاول اصلاحه، بعد أنا جاء التيار قوياً في غير موعده وقطع فجأة، فاحترقت يده اليمنى حرقا من الدرجة الثانية، وحمت لحيته الشائبة وجهه لتقتصر حروق الوجه على السطحية فقط.
نجى أبي من القنبلة الغاضبة، إلا أنه لم ينجو من الشتم والذم، وشيب لحيته الذي حماه بالأمس، لم يستطع تهوين الإهانة ولم يردع النفوس الغاضبة، حمل رعبه وخيبته وعاد إلى المنزل يهذي قائلا: لست أنا من قطع الكهرباء، لست أنا من خرب البلد ونهبها، يروحوا يحاسبوا ابن….. ولم يعد بحاجة للتوضيح أكثر. وفي الأسبوع التالي عاد الى عمله، بمرحه المعتاد، يمازح الغاضبين على الهاتف: ” اذا ما كانت الورشة عندكم بعد ساعة بس ليخلصوا الي بايدن تعالوا زتوا قنبلة عليي بالمكتب وبعدها منشربكم فنجان قهوة” ويضحك.
أحادثه اليوم من بيروت، ويصلني صوته مكسورا مرهقا، أسأله عن حاله فيجيب يا لولو أبوكي تعبان، فأسأله من ماذا؟
يخبرني: “من كل شي، الناس ما عادت قادرة تتحمل أي شي، ما عاد في كلمة حلوة بتسمعيا من حدا، لك حتى يعطيكن العافية، أبوك تعب خلص”. ويختتم كلامه بتنهيدة وحسرة، تعتصر قلبي، فأحاول التخفيف عنه مازحة: لك يا أبو سليم مريض السكري ما بيسوا له الحكي الحلو، شو بدك إيانا نخسرك”. نضحك معا وأغلق الهاتف وأغرق بالبكاء.
*من صفحة الكاتبة في فيسبوك