سوريلي تحت الأنقاض

-الحمد لله ع سلامتك ابو احمد
– الله يسلمك ابو جمعة
اجابني وهو متمدد على سريره في هستخانة عينتاب ،ويحاول ان يصل الى سماعات الاذن لكي لايزعج رفاقه المرضى ،فبدا لي وجهه عبر تطبيق الوتس اب شاحبا وضعيفا .
ابو احمد صديق قديم يعيش في غازي عينتاب ،دفن تحت الانقاض يومين ، ثم قام في اليوم الثالث من بين الأموات بعد أن قهر الموت .
ولم تكن تلك هي القيامة الأولى لأبو احمد .
كان وحيدا في المنزل ،لأنه سينتقل الى طرابزون ،حيث تدبر له المتعهد التركي اذن انتقال له و لأسرته ،فقد استلم هناك تركيب 200 مكيف ،سبقته اسرته وبقي تلك الليلة وحيدا حتى يسلم البيت للمؤجر ،ولم يكن في البيت سوى فرشة سميكة ولحاف وسخانة .
لكن في فجر ذلك اليوم سقطت تلك البناية ،وسقط معها ،بينما كان يغط في نوم عميق ،وكأن كابوسا قد حل عليه ليشل اطرافه ،وماكاد يصحو من كابوسه حتى شعر بارتطام رأسه بشئ ما ،ودخل في غيبوبة .
انطبق السقف فوقه واستند الى عمود فترك له مسافة ستين سنتمتر فوقه مثل قبر نظامي ،وبقيت تحته الفرشة فقد سقطت معه ،واما اللحاف فقد تمسك به اثناء السقوط .
وفي غيبوته كان يتمشى في حلب احيانا ،ويركب المكيفات احيانا اخرى ،ويرفض دماغه الواعي الاستيقاظ في هذه الظروف .

في ايام حلب ،كنا نجد متسعا من الوقت في رمضان ،نلتقي بعد صلاة العصر فنشتري الطعام ونتطوف في الأسواق .
وكان ابو احمد اكثر جلدا مني في الصيام لأنه لايدخن ،بل يكره رائحة التدخين ،لذلك لم يكن يأخذ عليه الصيام .
ونحب في رمضان المشي في حلب القديمة فنقطعها ببطئ من حارة الى حارة ومن سوق الى سوق ،ونقف امام بائع المعروك فيصبح لساننا شبرين من فرط التوق للطعام وخاصة ابو احمد فقد كان يحب ان ينقشها كثيرا ،لكننا لانشتري إلا من فرن النيال من عند ابو باسل عقيلي افضل صانع معجنات في حلب .
كان دائما ينصحني ان اترك السيكارة :
– والله ياابوجمعة لازم تترك هل السيكارة ،هي بتساوي هداك المرض ( السرطان ) .
– الله كريم ابو احمد
ثم نشتري كيس سوس من زاوية المعري ونصل الى بيوتنا مع أذان المغرب .

والمفارقة في قصة ابو احمد انه اصيب بسرطان المثانة عام 2000 ,وشرب الكيمياء وفقد شعر جسمه .
زرته في المشفى وكان شاحبا وضعيفا :
– ادعيلي بالرحمه ابو جمعة
– الله يرحمنا جميعا ،لكن ستعيش عمرا اطول مني ،هكذا اشعر ،وستعود اليك صحتك ،وعندما اموت انا ستضطر ان توزع عش البلبل على روحي .
عادت اليه معنوياته واتسعت عيناه من جديد بعد ان اصابهما الذبول ،وبخاصة على سيرة عش البلبل ،فهي اكلته المفضله مع العيران والنعناع الاخضر والفليفلة .
بعد تناول جرعة الكيمياء تسوء احواله كثيرا ،يدوخ ويتقيأ ويعاني من خوف شديد من أن يذهب الى الجحيم .
قال لي ان الشيخ قد اخبره انه سيذهب الى الجحيم لامحاله ،وكان في حالة مزرية .
اخبرته ان الجحيم لم تخلق لأمثاله ،بل خلقت لمثل ذلك الشيخ .
قلت له :
– عليك ان تشفى لكي توفر علي ثمن عش البلبل !
عادت الروح اليه من جديد على سيرة العش البلبل ،وعلى الرغم من ان ابو احمد ذواق في الطعام ،إلا انه لايأكل كثيرا .
– هل تعلم ياابو احمد لماذا سمي عش البلبل بهذا الاسم ؟
اردت ان ابعده عن سيرة الموت الملازم له طيلة فترة السرطان .
– هات اخبرني لماذا ؟
عش البلبل قرص يشبه عش طائر البلبل ،وهو يرمز للحياة الأبدية في الوثنية ،كما انه اقدم طعام معروف على وجه الارض ،صنعه الاموريون وله رموز وثنية .
-اللحمة سوداء اللون ترمز للموت ،فهو الطعام الاسود اللون الوحيد في حلب ،وأما الابيض فهو يرمز الى الأم عشتار ويسمى الفرخة ،ومنه جاء اسم طحين الفرخة ،وهو يرمز للتوالد من قبل الأم عشتار الفرخة الولادة والمنجبة لأجيال جديدة ،وأما الصنوبر فهو يمثل البيوض التي ترمز للذرية الصالحة والتي تبقى خالدة بعد موت الأب ،ومازال اهل اليمن والسعودية يرمزون للأبناء باسم بذوز .
ولهذا السبب يوزع عش البلبل على روح الموتى في حلب ،لكن احدا لايعرف اصل هذه العادة .

كنت احدثه وهو ساهيا وكأنه نسي السرطان الذي ينهش مثانته ،وكنت على يقين لو أنه نسي السرطان فلسوف ينساه السرطان .
بعد ستة اشهر تعافى من السرطان ،ونبت له شعر جديد ،وعادت مثانته جديدة كمثانة طفل حديث الولادة .
مرض ستة اشهر ،ثم تحول الى مايشبه جثة ،ثم قام بعد ذلك من بين الأموات بعد ان قهر الموت ،ولم تكن تلك هي آخر مرة يقوم فيها ابو احمد من بين الأموات .
وفي عام 2012 خرج ابو احمد مع من خرجوا في سفر الخروج .
– عندي شباب ياابو جمعة خايف عليهن ،رح نهج ماعاد النا بركة بحلب .
لم يبتعد كثيرا ،سكن في غازي عينتاب ,وعمل في مهنته تركيب المكيفات وصيانتها ،واستعان بولديه فشكلوا ورشة ،ويركبون المكيفات في الطوابق الخطرة ويتدلى ابنه على ارتفاع خمس اوست طوابق ،بينما يمسك به من القشاط مسكة جيدة ومحترفه .
التقيت به ذلك العام في غازي عينتاب :
– والله ياابو احمد انا بدي اطلع ع اوروبا ،مامشي حالي بتركيا
– كلو خير ابو جمعة ،بلاد الله واسعة وفيها الخير والبركة ،اما انا فإنني اخاف من بلاد الاجانب ،على الاقل في عينتاب هناك من يتكلم العربية وعاداتهم مثل عاداتنا .
قضينا يوما رائعا نتمشى في اسواق عينتاب ،اكلنا الزبيب والجوز ودرنا حول قلعتها ،وهي قلعة مصغرة عن قلعة حلب . ثم افترقنا على امل اللقاء يوما ما .

استيقظ ابو احمد بعد وقت لايعلمه ،وكان يشعر بألم حاد في رأسه ،ولم يستوعب ماحدث ،كل مافعله انه جر اللحاف على كتفيه وعاد الى غيبوته .
وكانت تنقطع الغيبوبة عند حدوث هزات ارتدادية ،فيفتح عينيه فلايجد سوى الظلام ،فيعود دماغه الواعي الى الهروب نحو الغيبوبة .
وحين يشعر بالعطش ،يتذكر كيس السوس الذي كنا نشتريه من زاوية المعري ،فيشرب حتى الارتواء وهو في الغيبوبة .
في اليوم الثالث شعر باهتزاز الجرافة ،واستيقظ يسعل من الغبار ،فانكشفت له فتحة احدثها المنقذون ،دخل منها ضوء النهار ليبهر عينيه ،اراد الصراخ ليخبرهم بمكانه ،لكنه لم يستطع ،وبالقرب من رأسه كانت تلك الفتحة تدخل الضوء الى مدفنه ،ومن خلال تلك الفتحة شعر بانفاس كلب تسعى نحوه ،فقد اكتشفه الكلب في وقت ابكر من اكتشاف المنقذين ،وكانت انفاس الكلب هي اول شيئ حار يقترب منه منذ ثلاثة ايام .
بعد ذلك اقترب رجل وتكلم مع ابو احمد بالتركية ،فأجابه ابو احمد بلسان تركي ركيك وسمعهم يقولون :
– سوريلي تحت الانقاض
واسرع المنقذون واحضروا رافعة صغيرة تشبه الكريكو وتعمل بالهيدروليك ،ووضعوها تحت السقف ورفعوه عشرين سنتمرا حتى تسنى لهم ان يخرجوه .
لقد فرقتنا سايكس بيكو ،ودمرت علاقاتنا التاريخية جمعية الاتحاد والترقي ،لكن الزلزال عاد ليوحد قلوبنا على المحبة والتعاطف .
ومن محاسن الزلزال انه ليس عنصريا ،يضرب خبط عشواء ،من يصب يمته ومن يخطئ يعمر فيهرم .

-الحمد لله على سلامتك ابو احمد
كنت اكرر هذه الكلمة لأنني لا اجد مااقوله سوى الحمد والشكر ،أما ابو احمد فقد كان لديه الكثير من الحديث عن الموت .
قلت له :
– سوف ازورك خلال الصيف في طرابزون ،وسوف نحسم قصة عش البلبل ،ولسوف ادعوك الى غداء عش البلبل وننتهي منها ونحن احياء ،وسوف اعفيك من توزيع عش البلبل على روحي .
ابتسم ابو احمد وتذكر ايام كنت اسليه في فترة العلاج بالكيمياوي .
لقد جربنا كل اشكال الموت في هذه الحياة ،بالقصف واللجوء والغرق والزلازل ،وبقي امامنا ان نجرب كل اشكال الحياة ،وسوف نتمشى في شوارع طرابزون ،نأكل الزبيب والجوز ،ونشرب الشاي على شواطئ البحر الأسود ،نعيش حياتنا ماقيض لنا ان نعيش ،ثم تكون اقصى امانينا أن نموت على الفراش كما يموت البعير .

عدنان جمعة الاحمد

المصدر: صفحة حكايات من حلب على فيسبوك

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s