عبد القادر حمّود: رؤيا، أم قراءة واعية للمستقبل؟
***
بعدَ مُضيّ أكثر من خمسة عشر قرناً على كتابة أولى القصائد العربية المعروفة، يمكننا القول إن عبارة (الشعر ديوان العرب) على شهرتها وعمق مدلولها تبدو عاجزةً بعض الشيء، وبخاصة عندما نرى فيها التاريخ والمآثر ومفردات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت، ولا يخطر بأذهاننا التوجّه في رؤيانا لما سيكون في المستقبل.
نعم، الشعر ديوان العرب ودليلهم نحو الآتي، فلم تقتصر نظرة الشاعر على ما كان أو ما هو كائن، إنما امتدَّت تلك النظرة لما سيكون، وهنا تكمن أهمية أُخرى للشعر ربما كانت هي درَّة تاجه الثمينة.
لقد سمّاها البعضُ (نبوءات)، وأطلق النقّاد مصطلح (استشراف المستقبل) ولا أُنْكِرُ ذلك ولا أنتقده رغم أني أميل إلى تسميتها (قراءة واعية للمستقبل)، وهذا الوعي بالطبع لم يتشكل عن قراءات ودراسات علمية أو أكاديمية تعتمد على قوانين واحتمالات، إنما هو وعيٌ نتج عن تراكمات مختلفة سكنت أو تجمَّعت في لاوعي الشاعر حتى وجدت فرصتها المناسبة للخروج إلى ساحة الوعي على شكل رؤيا، ولا نستغرب إن قيل نبوءة فهي تحتمل كلّ هذه المعاني على كل حال.
وبالتأكيد فهذه القراءة التي تلامس مساحات الرؤيا بلطف تنتج عن وَعْيِ الحاضر واستلهام التاريخ لتتمّ الشروط اللازمة لتشكُّل الوعي العام الذي يقود إلى رؤيا دقيقة أو شديدة القرب من هوية المستقبل.
ولكن السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه اليوم، وأظنه قد فرض نفسه قبل ذلك مرّات عديدة، إنْ لم نَقُلْ في كلِّ يوم، هل جربنا ولو مرة واحدة قراءة تلك (الرؤى)، أو القراءات الواعية لما هو آت؟، أم أننا ما زلنا عند محطة الالتفات إلى الخلف، وعضّ الأصابع في كلّ مرّة نتمنّى فيها لو أننا فهمنا أو استوعبنا ما قاله هذا الشاعر أو ذاك؟!، وما أكثر الأمثلة في تاريخنا وحاضرنا، ولعلها ستكون كذلك في أيامنا القادمة.
لقد أعادتْ مختلفُ مواقع التواصل تداول مقطع من قصيدة (المَحْضَر الكامل لحادثةِ اغتصابٍ سياسيةٍ) للشاعر السوري نزار قباني رحمه الله، ووصفت هذا المقطع بالنبوءة، أو نبوءة الشاعر نزار قباني، ولكن وللأسف جاء هذا الوصف ربّما بعد نصف قرن على ولادة القصيدة، فهل كان ثمّة من اعتبرها نبوءة في ذلك الزمن؟!، وإنْ كان هناك من وجد فيها نبوءة، فهل كان اكتشافه دليلاً للجماهير التي هي ضحية الواقع الذي يحثُّ الخطوات نحوها لا على ما تتمناه إنما على ما يتراءى للشاعر؟، ومهما يكن وفي عودتنا إلى لحظة ولادة القصيدة نجد أن الشاعر كان مُصيباً برؤياه أو باستشرافه لواقع الأمة في الزمن اللاحق…
يقول الشاعر في هذا المقطع من قصيدته وكان الحديث حينها لا يدور إلا حول فلسطين التي بلغ بالسّاسة أن سمّوها قضيّة وجعلوها قضية العرب الأولى فيما تبيَّن بعد ذلك أنه محاولة لتوقيف عداد الزمن عند تلك اللحظات وكأن لا قضية أخرى ستكون موازية لقضية فلسطين أو مشابهة لها، إلا أنَّ نزاراً كان وكما اتَّضح بعد ذلك يرى أنّ القضية أكبر وأّن فلسطين ما هي إلا حلقة من حلقات مصيبة طويلة، فهو القائل:
سامحونا…
إن تجمَّعْنا كأغنامٍ على ظَهْرِ السَّفينَهْ
وتشرَّدْنا على كلِّ المحيطاتِ سنيناً، وسنينا
لم نَجِدْ ما بَيْنَ تجَّارِ العربْ
تاجراً يقبَلُ أنْ يعلفنا، أو يشترينا
لم نجدْ بينَ جميلاتِ العَرَبْ
مرأةً تقبلُ أنْ تعشَقَنا، أو تَفْتَدِيْنا
لم نجدْ ما بينَ ثوَّارِ العَرَبْ
ثائراً، لمْ يُغْمِدِ السِّكِّيْنَ فينا
هذا، وفي توقُّفِنا مع مجرياتِ الزمن الذي نحياه في لحظاتنا هذه، لنعيد قراءة النَّصّ من جديد مفردة مفردة، أليست الحال الذي رآها الشاعر هي حالنا الآن تماماً؟، وإنّا لا نمنحُ الشاعر صفة الإعجازِ أو نجعله من أصحابِ الكراماتِ وصولاً إلى علم الغيب الذي هو بيد الله تعالى وحده، أليست مشكلتنا بعد ثورة الحرية والكرامة في سوريا مع التجار ومع من تسلَّقوا ظهر الحدث فألقوا على أنفسهم عباءات الثوار ليديروا سلاحهم (سلاحنا) نحو صدورنا نحن أبناء الأمة تاركين الهدف من الثورة خلف ظهورهم؟، ولنمضي مع الشاعر لنستجلي الصورة أكثر وأكثر في قوله:
سامِحُونا
إذا أصبحْنا بالخيامِ نازحينْ…
وبقينا فيها سنيناً وسنينْ
وأطلقَ العربانُ علينا اسمَ لاجئينْ
وأصبح همُّنا الماءَ والطحينْ
وأصبحت بيوتُنا من قماشٍ وطينْ
فسامحونا فقبلنا كانت فلسطينْ
وبعد القراءة، هل ثمَّة تعليق؟!، ولو أردنا التعليق فأيّ الكلمات يمكننا استخدامها ونحن نشهد اللوحة ونرى مفرداتها بأعيننا ونسمع إيقاعاتها الدامية بآذاننا ونصطلي هجير لحظاتها وصقيعها لحظة بعد أخرى، أتُرانا مضطرّين لأن نسكت عن المفردات التي تدور في ذهن كلٍّ منّا؟!.
وغير ذلك وفي صَدَدٍ مُشابِهٍ نتابع مع مشهد آخر، لا ندعي أنه قراءة للمستقبل كما هي الحال مع نزار قباني، بقدر ما هو توصيفٌ لحاضرٍ كان، إنما في واقع الأمر هو مستمرٌّ حتى اللحظة، ولا يزال في مجراه، ويمكن اسقاط مفرداته على واقعنا نحن السوريين رغم أنه جاء من رقعةٍ أُخرى من جغرافيا العرب يمكننا أن نصفها بأنها بعيدة إذا كانت المسافات تُقاس بالأمتار، فَمِنَ اليَمَنِ يأتي صوت الشاعر عبد الله البردوني رحمه الله، لنصطدم بعنوان قصيدةٍ له بداية الأمر، وهذا العنوان في حقيقة الأمر جوابُ أسئلة الواقع الحالي وجوابُ أسئلة الفشل والخيبة التي مازالت تعصف بنا كلّ صباح وكلّ مساء طالما أنَّ الخيبات لا تأتي بوقتٍ محدّد من اليوم.
(نحن أعداؤنا)، تحت هذا العنوان الصادم تأتي القصيدة، وبالطبع فهي تتحدَّث عن حَدَثٍ ثوريٍّ كان في اليمن إبّان كتابة القصيدة منذ ما يربو على نصفِ قرنٍ، وبالتّحديد في أواخر ستينات القرن العشرين (أبريل 1969م)، ولكن ما أشبه الأمس باليوم، ليس من وجه الجمال إنما من الوجه الآخر، وكأن دروس الماضي لا تعنينا، أو أننا خُلقنا هكذا لا نجيد إلا صنع المآسي ولا نمضي إلا في دروب الخيبات، ونملك ما يكفينا من الخبرة لتخريب بلادنا التي قيل عنها في المأثور الديني والتاريخي ما قيل ولا أظنني بحاجة لشرح ذلك، ولأنَّ البردوني اختار الوضوح والهجوم المباشر منذ العنوان فلا صعوبة تُذْكَرُ في تحليل رؤياه وتتبع خيوطها فقد أرادها جاهزة، عارية، فاقعة الظهور، وما علينا إلا أن نقرأ النتائج التي كانت ونعضّ الشفاه لأننا مازلنا نكرّر ذلك ببلاهة يبدو أنها من موروثاتنا أو من تقاليدنا التي جُبِلْنا على المحافظة عليها بكل ما آتانا الله من ضعف في الإدراك:
لأنّا رضعْنا حليبَ الخنوعُ تقَمَّصَنا من صبانا الخضوعْ
فجعْنـــــا ليكتظَّ جلاّدُنا ويطغى، وننسى بأنّا نجوعْ
وبسؤال بسيط يراودنا كقرّاء لهذه الأبيات ألا يخطر ببالنا هتافُنا الساذج (بالروح بالدم نفديك…)!؟، وكأننا نملك ما يُفتدى به، وأمام هذه البلادة في الأحاسيس وهذا الولاء الأعمى الذي من المفترض أن يقودنا في لحظةِ نموِّ الشعور إلى ردّة فعل إلا أننا لم نقم إلا بمزيد من الغرق في مزابل ومستنقعات الولاء البهيمي، ولننظر إلى صورتنا في المرآة ونقرأ مفرداتها، والمقصود بذلك المرآة التي وضعها الشاعر أمام أعيننا في ذلك الوقت، ولا أظننا نظرنا فيها، وإن نظر بعضُنا فأظنه لم يدخل كُنْهَ المرآة ولم يفقه المعنى بشكل يقود إلى نتيجةٍ مُرْضِيَةٍ تحمل في جيناتها بعض التغيير الإيجابي، يقول الشاعر متابعاً:
وحين شَعَرْنا بنهـــشِ الذّئابِ شددْنا على الجُرح نارَ الدّموعْ
ورحْنا نجيد ســُـبابَ الدّجى ولم ندْرِ كيف نضيءُ الشّـموعْ
نفورُ… وتطفِئُنــــــــــا تَفْلَةٌ فنمتصُّ إطفاءَنا في خشــــوعْ
وبعد الترحُّمِ على أنفسنا الغارقة في غيبوبتها، تأتي القصيدة على بقايانا فتمزّقها وتبدّدها في الريح، لا لشيء إلا لأنها لا تجامل ولا تنافق مشاعرنا إن كان ثمة مشاعر، فما نحن إلا أشباهاً تنهض بلا وعي وتسقط أيضاً بلا وعي، فإن أدرَكَنا الحماسُ وتحرَّكْنا فمصيرنا كالدببة التي قامت للرقص، وإن لم نصِفْ مشهد رقصها بالقبيح فيجب أن نعلم ماذا فعلت الدببة في حفلة الرقص من تحطيم وتكسير وإتلاف لمحيط مسرحها المفترض، ومرة أخرى يتبادر إلى الأذهان السؤال، هل نحن الذين نثور أم أننا مجرد مقلِّدين لأن بلداً ولأمر ما قامت به ثورة أو حِراك؟، وغير ذلك هل نتبع قوى مؤثرة ولا إرادة لنا في تلك التبعية فنثور عندما نؤمر ونخمد بأمر الحاكم عندما نؤمر أيضاً؟، بعض الأسئلة أجاب عنها الشاعر فيما سبق، ولا حاجة إليها، وبعضها الآخر واضح الجواب، ولكن النتيجة تبقى كما هي، ونبقى نحن كما نحن، ولنقرأ ما يقول الشاعر البردوني في أبياته الآتية، ونحاول قياس ذلك على واقعنا السُّوريّ والثَّوريّ الراهن:
ولمّا ســـمعْنا انفجارَ الشّعوب أفقْنا نرى الفجرَ قبلَ الطلوعْ
ويومـــــــاً ذَكَرْنا بأنّا أُناسٌ فثُرْنا ومتْنا لتحيـــا الجموعْ
ولكنْ لبســــــنا رِداءَ الأُباة وفي دمنا المســــتظام الهَلوعْ
وكالعادة ففي كلّ محاولةِ نهوضٍ أدمنّا وضع العصيّ بالعجلات، وتحميل فشلنا إلى جهات أخرى، ولعلنا نَبْرَعُ في استقدام أو استحضار تلك الجهات الخارجية لتكون الشمّاعة التي نعلّق عليها خيباتنا وفي أحسن الأحوال نهيئ الظرف المناسب لدخول أو تدخّل تلك الأطراف لتجني محصولنا ونبقى في دائرتنا السوداء المغلقة:
فحين انتوَيْنا شروعَ المســـــير حَذِرْنا المغبّاتِ قبل الشــــروعْ
وقلْنـــــا أتى من وراءِ الحدود جرادٌ غريب فأشــــقى الربوعْ
وليـــــس عِدانا وراءَ الحدود ولكنْ عِدانا وراءَ الضّلــــــــوعْ
فقدْ جَلَتِ الرّيحُ ذاكَ الجراد فكانَ جراداً وكنّــــــــا الزّروعْ
ومرة أُخرى نتوقَّف عن الكلام، وعن التأمّل أيضاً، وندخل مأزق الحقيقة، فهل كان الشاعر يتحدّث عن ثورة اليمن أواخر ستينات القرن الماضي، أم أنه يتحدّث عن واقع الثورة في سوريا ذلك الواقع الذي نعيشه في هذه اللحظات من بدايات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟، ولا بأس إن عمَّمْنا الأمرَ فلعلَّه واقع كل ثورات الربيع العربيّ وما جاورها من حوادث وأحداث تشهدها المنطقة الآن، فهل ثمة كلام، أم أن الشاعر وفّر علينا ذلك تاركاً لنا سؤاله الذي هو جواب كلّ أسئلتنا المحتملة، إذْ قال:
فهلْ خَلْفَنا شاطئٌ يا رياح! أَقُدَّامَنا مرفأٌ يا قلـــــــوعْ!
وصلْنا هنـا لا نطيق المضيَّ أماماً ولا نسـتطيعُ الرّجوعْ
فلم يبقَ فينا لماضٍ هـــوىً ولم يبقَ فينـــــا لآتٍ نزوعْ
وآخر ألأمر، تأتي أسئلة الواقع المريرة، المتمثلة بـ(لماذا)، ووراء هذا الاستفهام تتقاطر الكلمات والتعابير المستفسرة والباحثة عن مكامن الغلط المسبّب لكلّ هذه الانتكاسات، وتبقى الأسئلة في مداراتها وماكينة إنتاج الإنسان (الشرقي أو العربي تحديداً) لا تتوقّف إنّما في ذات المواصفات التي تتكرَّر منذ مئات القرون، فهل العلّة في الإنسان الشرقي ذاته الذي خُلِقَ ليكون عبداً كما أشار أحد فلاسفة اليونان القدماء!؟، وهل الطفرات التاريخية التي جعلت من هذا الإنسان منارة أو حامل شعلة هي مجرّد طفرات في مسيرة الزمان!؟، الأسئلة كثيرة والإجابات تدور في فلك التحليل والبحث عن احتمالات ونظريات ومقارنات لا تزيد في الأمر إلا عَماءً، أم أن في الأمر ما فيه!؟، وأن تجربة الشعب الأمريكي الذي خرج من براثن عبوديته قبل قرون قليلة بمقياس الزمن ولكنه يحارب الآن بكل ما أوتي من قوة على اختلاف انتماءاته العرقية كي لا يعود إلى تلك المساحات الخانقة ستكون طفرة هي الأخرى. وللعلم فهي حتى اللحظة لا توحي بأنها طفرة ولذلك ألا يمكن أن نجد في تلك الحالة مثالاً تستلهمه الشعوب العالقة في عنق الزجاجة؟، وألا يوقفنا في هذا الصَّدد التصوّر اليائس والبائس ولكن الواقعي للأديب السوري محمد الماغوط رحمه الله لـ(ساعة المستقبل) في بلدِنا، ذلك التصوّر الذي كان ومازال ساري المفعول حتى بعد رحيل الشاعر بعقد من الزمن تقريباً وبعد كتابة ذلك التصور بأكثر من ثلاثة عقود (1987م)، وبهذا التصور للماغوط نختتم ما ذهبنا إليه فيما سبق حيث يقول في كتابه (سأخون وطني) تحت عنوان (ساعة المستقبل): (بعد ثلاثين سنةٍ من الثقةِ المُتبادلة بين المواطن العربي وأجهزة الإعلام العربية، نعلم أنَّه عندما تركّز الأجهزة على قضيّة ما وترعاها فجأة بكلّ ما عندها من صحفٍ ومجلاّتٍ وخُطَبٍ ومهرجاناتٍ ومطربينَ ومطرباتٍ، فمعنى ذلك أن نقرأ الفاتحة قريباً على هذه القضية.
أنا مثلاً: دون تردّد أو مناقشة، ما أنْ تركّز مثل هذه الأجهزة على قضية الحرية فجأة حتى أجهّز “شحاطتي” و”بيجاماتي” وأحلق شعري على الصفر سلفاً.
وعندما تركز على موضوع الاشتراكية، أسارع على الفور وأتفقد برّادي صحناً صحناً وبيضةً بيضةً، لأن معنى ذلك أن الناس ستأكل بعضها عما قريب.
وعندما تركّز على موضوع النّصر والتّحرير واستعادة الأماكن المقدسة، أضبّ الحقائب وأستعدُّ للمبيت قريباً أنا وعائلتي تحت أحد الجسور في الفاتيكان، لأنّ معنى ذلك أنّ قطعةً أُخرى من الأرض العربية ستطير…).
عبد القادر حمّود
ريف إدلب: 2023